إياد العنبر
انتشار أمني واسع في أهم مناطق بغداد، ودوريات مكافحة الإرهاب تتمركز وسط العاصمة. مشهد يوحي لك بوجود نشاط إرهابي يهدد بغداد، أو بأن هناك مواجهة عسكرية مع جماعات مسلحة تريد أن تفرض سيطرتها على مناطق محددة. لكنه في الحقيقة، رد فعل الحكومة والقيادات الأمنية على هجوم مجموعة من الأفراد على أحد مطاعم "كنتاكي" (KFC) في بغداد.
المهاجمون رفعوا شعار ضرب الوكالات التجارية الأميركية في العراق، لأن أميركا تدعم إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين في غزة. رغم أنها تأتي بعد تسعة أشهر من الحرب، وتختار الهجوم على مطاعم الـ"KFC"، بدلا من الدعوة لمقاطعة شاملة لكل البضائع والمنتجات الأميركية في العراق.
ما حدث في بغداد، هو خرق أمني واضح. ولكن الأكثر وضوحا هو عجز الحكومة على إدارة الملف الأمني، والتناقض مع دعوتها الدول والشركات إلى الانفتاح الاقتصادي والاستثمار في العراق. وهذه هي مشكلة الحكومات عندما تتحدث عن استقرار أمني أو انفتاح اقتصادي على كبرى الشركات العالمية، ولكنها عاجزة، لحسابات سياسية، عن مواجهة جماعات مسلحة تريد العبث بالأمن والاستقرار، وهي من تختار الزمان والمكان لاستعراض سلاحها، وتريد أن تقول "سلاحي فوق سلاح الدولة"! ومن ثم، تلوذ الحكومة ووزراؤها وقياداتها الأمنية ومستشاروها بالصمت وتختفي من الواجهات الإعلامية، وتكتفي بالبيانات الخجولة التي لا تحدد من هي الجهة المسؤولة ولا إلى من ينتمي الأفراد المهاجمون. لا بل تعترف صراحة بأن من قاموا بالهجوم ينتمون لجهة أمنية تابعة للدولة.
حاولت حكومة السوداني منذ تشكيلها تفادي الدخول في مناطق اشتباك مباشرة مع جماعات السلاح الموازي والميليشيات المسلحة، وحساباتها السياسية كانت حاضرة دوما في الابتعاد عن المواجهة المسلحة مع أي قوى تحمل سلاحا موازيا للدولة. وبالنتيجة باتت تميل كثيرا إلى دور المتغافل عن الانفلاتات الأمنية. ولذلك ليس من المستغرب أن تكون المبادرة دائما بيد جماعات السلاح أو أي طرف سياسي يعمل وفق ثنائية السلاح والسياسة، لإحراج الحكومة أمام الجمهور أو الدول التي ترتبط معها بمصالح وعلاقات استراتيجية.
ويبدو أن خيار الحكومة بالابتعاد عن المواجهة الحاسمة واستعادة هيبة الدولة، وقدرتها على فرض الأمن. سيكون القشة التي تقصم خططها في استعادة ثقة المواطن وصورتها أمام محيطها الإقليمي والدول الكبرى التي ترتبط معها بمصالح استراتيجية.
وكيف لحكومة تظهر بموقف العاجز عن حماية وكالة لمطعم "KFC"، كيف لها أن تكون قادرة على توفير البيئة الأمنية التي يشترط توفرها لضمان تنفيذ مذكرات التفاهم التي تم توقيعها في زيارة السوداني الأخيرة إلى واشنطن، والتي وصلت إلى 14 مذكرة تفاهم وعقود شراكة في مجالات الكهرباء وتطوير القطاع النفطي والغاز، مع شركات "جنرال إلكتريك" الأميركية، و"هانويل"، و"KBR"، و"ترانس أتلاتنك بتروليوم"، و"بيكر هيوز"، و"GE"، و"آرك" للطاقة.
ومن جانب آخر، كيف يمكن أن تثق الولايات المتحدة في شريك، لم يبذل جهدا في منع تكرار الاعتداءات على المصالح الأميركية، ومناطق وجودها الاقتصادي والعسكري. ويمكن أن تتقدم خطوة باتجاه التعاون الأمني وتحديث القوات الأمنية العراقية وبناء قدراتها العسكرية، والمضي قدما في الشراكة الأمنية بين العراق وأميركا في المستقبل. من خلال مبيعات عسكرية أجنبية (FMS) ومجموعة واسعة من الأنشطة التدريبية والتجهيز التي تدعم القوات الأمنية والتي يتم تمويلها من خلال صندوق التدريب والتجهيز لمحاربة "داعش" (CTEF). ومن ثم المضي في تنفيذ بروتوكول لعمل مشترك بين البنتاغون وحكومة تالعراقية، الذي يعترف بالمشتريات المقترحة من قبل العراق وتقدر قيمتها بحوالي 550 مليون دولار باستخدام آلية الدفع المرنة (CAPS). والذي من المفترض أن تسمح شروط البيع للعراق بتقديم دفعات كل فترة بدلا من دفع كل القيمة مقدما.
نجحت الجماعات المسلحة التي تقف خلف الهجوم على مقرات الوكالات التجارية الأميركية في العراق، في تحقيق غايتها بإرسال رسالة واضحة وصريحة إلى الحكومة بأنها قادرة على إحراجها أمام الرأي العام وأمام الدول التي ترتبط معها بمصالح استراتيجية، من خلال إرباك الوضع الأمني.
وقد اكتفت الحكومة باعتقال أشخاص محددين، من دون الإشارة إلى ارتباطاتهم مع الجهات المسلحة التي تتبنى الهجوم، والاكتفاء بإصدار بيانات من الداخلية لا تحدد الجهة المسؤولة عن الهجوم، وإنما تعترف صراحة بانتمائهم للأجهزة الأمنية، ما يشير إلى رهان الحكومة على عامل الزمن لتجاوز هذا الموضوع حتى وإن كانت في موقف تتنازل فيه عن حقها في احتكار العنف وتنظيمه، وعن قدرتها في فرض سيادة القانون.
الهجوم الذي استهدف مطاعم "KFC"، يعبر عن تطور خطير وصل إليه التداخل بين السياسة والسلاح، فقوى السلاح باتت تستغل رغبة الحكومة في الابتعاد عن المواجهة المسلحة مع من يريد أن يفرض نفسه بقوة السلاح على الشارع والمؤسسات الحكومية، لتحقيق مصالحها التي لم تتمكن من فرضها داخل العمل السياسي. إذ بما أنها لا تملك الحضور في العمل السياسي، فإن تعويض ذلك يتم من خلال حضورها المسلح، وقدرتها على تحقيق غاياتها في إرباك المشهد السياسي والأمني.
هذه الإشكالية، تعبر عن صراع غير معلن بين أطراف سياسية تعمل وفق ثنائية السلاح- السياسة، وبين أطراف أخرى لديها السلاح ولكنها تفتقد إلى الحضور في المجال السياسي. وتعتقد جماعات السلاح التي لم تشترك في السياسة أن غياب تمثيلها السياسي في البرلمان وفي الحكومة، يجعل الأطراف الأخرى المنافسة لها تستأثر بمغانم السلطة وموارد الدولة. ومن ثم، يمكن تعويض الحضور السياسي بقوة السلاح.
يستشعر العراقيون الحاجة إلى وجود الدولة بعد أن تلمسوا مأساة غيابها. ولذلك بدأ التحول في خطاب الطبقة السياسية نحو التأكيد على الدولة وضرورة استعادتها، لكنه لم يتحول إلى سلوك عملي في المواقف السياسية. وقد يبدو نوعا من السذاجة والبلاهة تصديق تلك الخطابات، فالمافيات السياسية وقوى السلاح الموازي والميليشيات، لا يمكن لها أن تحمل مشروع بناء الدولة، لأن غياب الدولة عن المجال العام هو الفردوس بالنسبة لها، ووجود الدولة القوية يعني نهاية نفوذها وهيمنتها.
ويبدو أن حكومة السوداني تدرك تماما، أن تكلفة المواجهة المسلحة مع الجماعات الموازية للدولة ستكون عالية، لكن تخاذلها عن المواجهة أو تأجيلها، ستكون تكلفته أكثر بكثير. إذ لا يمكن أن يثق المواطن في حكومة تتجاهل أولى أولوياته في الحياة، ألا وهو الأمن والأمان. وإذا كان مشروع رئيس الحكومة يتركز في الأيام القادمة على البقاء لولاية ثانية، فإن تجاهل مواجهة الانفلات الأمني سيكون بمثابة كعب أخيل في تجديد بقائه بمنصب رئيس الوزراء في الحكومة القادمة.
ما تحتاجه المرحلة القادمة، والذي يمكن أن يخفض من تكاليف وخسائر المواجهة مع قوى السلاح المنفلت والموازي، هو التحالف بين قائد سياسي يؤمن بمشروع الدولة وقائد عسكري يؤمن بضرورة استعادة وظيفة المؤسسة العسكرية في حفظ أمن الدولة ومؤسساتها بعيدا عن الطموح السياسي ويرفض خضوعها لقوى اللادولة.
خارطة الطريق لاستعادة الدولة ليست بالمهمة المستحيلة، لكنها لا يمكن أن تكون معركة رابحة إلا بتحقيق التوازن بين استخدام أذرع الدولة الأمنية برمزية الانتصارات على قوى الإرهاب وتنظيم "داعش"، وبالتوازي مع ثلاث خطوات رئيسة: الأولى كسب ثقة المواطن وجعله شريكا وحليفا للحكومة في معركتها ضد قوى اللادولة بكل عناوينها.
أما الثانية، فتقوم على أساس استدراج القوى السياسية التي ترفض البقاء ضمن ثنائية السلاح والسياسة واستخدام كليهما في الهيمنة على الدولة ومحاولة إضعافها واستلاب وظيفتها ودورها في المجتمع.
والخطوة الثالثة، هي إقناع القوى الإقليمية بأن دعم الحكومة سيكون أكثر جدوى من الرهان على توفير الإسناد للقوى التي تعمل على إضعاف الدولة.