ستار كاووش
كان على القطار أن يقطع هولندا من شمالها الى جنوبها، ثم يتجاوز الحدود البلجيكية ويمضي حتى بروكسل لأستبدله بقطار آخر يأخذني نحو الجنوب حيث الحدود الفرنسية التي ما أن يتجاوزها هتى يقف في محطة مدينة لِيل، هذه المدينة التي رغم عمرها الذي تجاوز مئات السنين ومكانتها التاريخية، فهي تغفو مثل فتاة في مقتبل العمر في أقصى الشمال الغربي لفرنسا، حيث مازال الكثير من ثقافة هذه المدينة يعود لهولندا، لأنها كانت في السابق جزءً من الأراضي المنخفضة، ومازال الهولنديون يطلقون عليها الاسم القديم (رايسل)، وقد تغيرت حدودها وصارت تابعة لفرنسا منذ سنة ١٦٦٧، وبعدها إنقسمَ الجزء الجنوبي كله من هولندا وتأسستْ ما تسمى الآن دولة بلجيكا. وهكذا صارت هذه المدينة -رغم فرنسيتها- مختلطة الثقافة بين فرنسا وبلجيكا وهولندا.
عند بوابة المحطة أستقر تمثال نصفي بإرتفاع ثلاثة أمتار تقريباً لإمرأة جميلة بنظرات غامضة تستقبل القادمين الى المدينة. والتمثال من انجاز النحات الفرنسي خافيير فيلهان، الذي أطلق عليه إسم فتاة (رومي). وهذا التمثال مصنوع من الـفولاذ والألياف الزجاجية، وبلون أصفر فاقع يجلب النظر من بعيد وكـإنه مصباح، درتُ حول هذا التمثال الجميل الذي يشع في كل الاتجاهات، وفكرتُ كيف إنسجمَ مع معنى إسم رومي الذي يحمل في الثقافات المختلفة معاني مثل القوة والجمال والتفوق والتقديس والسعادة أو حتى المعنى الذي يعتقده الكوريون وهو آلهة القمر، لكن رغمَ كل هذه التسميات فقد أعادني التمثال أيضاً الى الممثلة الجميلة رومي شنايدر. وحين هممتُ بإكمال طريقي إلتَفَتُّ نحو رومي من جديد فبدت كإنها شعلة إنبثت من رصيف المحطة.
سحبتُ حقيبتي خلفي ودخلتُ الى شارع لوكوربوزيه (الذي أخذ إسم المعماري الشهير) متجهاً نحو البيت الذي يبعد عن المحطة عشر دقائق مشياً، والذي استأجرته لمدة اسبوع من امرأة فرنسية تدعى أوفيليا، والتي كان من المفترض أن تنتظرني قربَ البيت، لكني استلمتُ منها رسالة قبل وصولي، تخبرني فيها بأنها ستترك لي المفتاح عند سوبرماركت (كارفور) المحاذي للبيت من جهة اليسار، وان احتجت إي شيء فبإمكاني الاتصال بها. أخذتُ المفتاح وإتجهتُ نحو البيت، صاعداً السلم الضيق نحو الطابق العلوي حيث المكان الجميل الذي سأقضي فيه سبعة أيام. في اليوم التالي خرجت للتسوق من بعض المحلات القريبة، وعدتُ حاملاً كيساً ورقياً فيه بعض الأكل والشرب، وقرب البيت بمحاذاة محلات (مدام) للشيكولاتا، قابلني رجل في الثمانين تقريباً يشبه إيف مونتان، يعتمر بيريه ويمسك صحيفة، ماشياً بهدوء، فيما تبرز مثل العصا قطعة خبز الباغيتي التي يتأبطها، حييته بكلمة بونجور فرد عليَّ التحية بأجمل منها مع حركة خفيفة من رأسه.
وضعت الأكل على الطاولة، وخرجتُ من جديد لإستكشاف أسرار هذه المدينة التي إجتمع فيها تاريخ وثقافة أكثر من دولة، حيث إمتزجَ الذوق الفرنسي مع الجمال الهولندي والترف البلجيكي. ما أن تجاوزتُ الشارع الصغير، حتى إنفتحت أمامي ساحة غرانت بلاس المحاطة بالمقاهي المفتوحة على الأرصفة والتي تتوسطها نافورة كبيرة توزعَ الناس جالسين على حافة حوضها الدائري. لاحت لي بعض الغيوم في السماء، ففكرتُ بالمطر ثم تحسستُ المظلة التي أطويها في حقيبتي الصغيرة، ومضيتُ غير مكترثاً بين شوارع المدينة.
إبتدأتُ يومي بمركز التسوق، هذه البناية الضخمة التي تتجاور فيها متاجر العطور والأزياء والقلائد والشوكولاتا والمقاهي، وتوزعت مطاعم تُقدم مختلف الأكلات الصغيرة والمعجنات مختلفة الألوان والأشكال والتي تشبه لقى أثرية أو كنوزاً صغيرة، حتى بدت بعض قطع الكعك المعروضة في الفترينات الطويلة كإنها أشكالاً نحتية صُنِعَتْ من الصلصال الملون.
عند خروجي من مركز التسوق، وعند البوابة الزجاجية قابلتني ثلاث فتيات بملابس قصيرة، يمشينَ بخفة وثقة نحو مركز التسوق، إجتزتهن وأنا أبطيء مشيتي بعد أن غازلني العطر الذي تطاير من شعرهن وإختلطَ برائحة الشوكولاتا التي تجاوزت عتبات بعض المتاجر وداعبتْ وجوه المارة. لا شيء يضاهي الجمال الفرنسي ولا الأناقة التي تنبع من هذه الأرض، حيث تتبعثر الألوان ويتناثر الشذى أمامكَ في كل الطرقات. هنا عرفتُ لماذا ولدت المدرسة الانطباعية في فرنسا، حيث عاش رينوار ومونيه وباقي سَحَرَة اللون.
جولة طويلة ذرعتُ خلالها الكثير من الشوارع والساحات، وفي طريق عودتي بحثاً عن مستقر للمساء، كان العشاق يقطعون الطرقات بإتجاه هذا المطعم، ذاك المقهى أو تلك الحانة، جمال يَمسِكُكَ من ياقتك ويحرضك على المتعة في أيامنا التي تمضي بسرعة. وأنا على هذا الحال أبحث عن طاولة فارغة في مقهى الرصيف المزدحم، مرَّتْ بجانبي امرأة فاتنة تشبك ذراعها بذراع حبيبها غير المبالي أو السارح والمبتهج بالحياة، وفي يدها الأخرى تمسك سيجارة رفيعة جداً وبلون بُني داكن، فيما توهج الشال الاخضر الذي تلفه حول عنقها وجعلها واحدة من لوحات الفنانة لامبيسكا. إبتعَدَتْ المرأة الجميلة بخطواتها الواثقة وهي تتمايل قليلاً نحو اليمين واليسار، ياالهي كيف لكلماتي أن تصف هذا المشهد، كإنكَ تشاهد المدرسة الانطباعية تمشي على قدمين. هذا ما تقوله لك امرأة فرنسية، وفي فرنسا، حيث لا يهم الناس في هذه البلاد الجميلة سوى التمتع بمباهج الحياة والمضي مع ايقاعها وأيامها الفاتنة.
جميع التعليقات 1
سامي المظفر
منذ 5 شهور
منظر المرأة المدخنة كافية بان تجعل اجمل النساء تبدو اقبح من القبح نفسه.