ديفيد روبسُن*
ترجمة:لطفية الدليمي
مثلَ كثيرين من رفقائي المراهقين، غالباً ما شعرتُ في سنوات مراهقتي أنّ كرّاسة يومياتي هي الصديق الاقرب لي. كنتُ في سنوات المراهقة أنسحبُ إلى غرفة نومي وأنا بمزاج معتل؛ لكن حالما كانت العبارات التي أكتبها في كرّاسة اليوميات تتخذ شكلها المطلوب على الورقة فإنّ المشكلة التي كنتُ رازحاً تحت عبئها الثقيل، وبغضّ النظر عن مدى رؤيتي لها بكونها أقرب لمعضلة كارثية وجودية عظمى، كانت تتبدّدُ وتتلاشى من عقلي. لم أكن بالتأكيد قادراً على تصفير كلّ حزن أو جعله منسياً في العدم؛ لكنّي في الاقل كنتُ أشعر عقب ممارسة كتابة يومياتي بأنني أكثر هدوءاً، كما لو أنّ همّاً ثقيلاً إنزاح عن صدري.
مثل هذه البرهات المدهشة التي جلبتها لي الكتابة دوماً ما ترافقت في عقلي بمشهد في إحدى أجزاء رواية هاري بوتر، وهو الجزء المسمّى هاري بوتر وكأس النار Harry Potter and the Goblet of Fire، وفيه يعمدُ مدير المدرسة في منطقة هوغوارتز، ألبوس دمبلدور، على إستخلاص الذكريات الحزينة والمشوّشة لسكينة الروح بواسطة عصاه السحرية ويضعها في وعاء ضحل رقيق يدعى "المفكّر"، وهذا المفكّر هو ما يجعله يرى الامور بطريقة اكثر عقلانية وبعداً عن العاطفة المتأججة. الكتابة بالنسبة لي وفّرت راحة وسكينة لعقلي وروحي مثلما فعلت عصا دمبلدور السحرية.
كُتّابُ اليوميات، عبر التاريخ، إختبروا الحالة ذاتها من السكينة. "عندما أكتب أستطيعُ هزّ كلّ ما هو مبعث قلق لي. حينها تختفي أحزاني، وتحلّق روحي بعد أن تستعيد صفاءها وألقها": هذا ما إختبرته آن فرانك** وكتبت عنه. أما بقدر ما يختصُّ الامر بي ككاتب خيال علمي فلطالما ملأتني السعادة كلّما إكتشفتُ أنّ ممارستي الكتابية لم تسهمْ في تسكين روحي المضطربة فحسب بل تستطيع الارتقاء بأحوالنا الجسدية كذلك.
البروفسور جيمس بنبيكر وطالبته خريجة الدراسات العليا ساندرا بيل كانا أوّل من قدّم عرضاً لهذه الحقيقة في ثمانينيات القرن العشرين. طلب الاثنان من مجموعة طلبة كتابة مقالة قصيرة تستغرق خمس عشرة دقيقة لأربعة أيام متتالية. البعضُ من المشاركين تشجّعوا للكتابة عن" التجربة الاكثر إيلاماً وتعويقاً لحياتهم"، وقد ساعدتهم هذه التجربة الكتابية غير المسبوقة بالنسبة لهم على إستكشاف " أعمق الافكار والمشاعر" الخبيئة في عقولهم وأرواحهم. آخرون من المشاركين طُلِب إليهم الكتابة عن موضوعات بديهية وعادية للغاية مثل وصف غرف النوم التي ينامون فيها أو الاحذية التي يرتدونها. الطلبة في المجموعة الاولى وصفوا مشاعر الذنب التي تلبّستهم بسبب موت جدّة لأحدهم مثلاً، أو مشاعر الغضب بسبب طلاق أبويهم، أو مشاعر العذاب بسبب أوضاعهم الجنسية. عملية مواجهة هؤلاء لمشاعرهم الحقيقية لم تكن بالامر اليسير، والعديد منهم غادروا مختبر الدكتور بنبيكير- حيث تجري إختبارات الكتابة- وهم يشعرون بحزن أقوى عمّا كانوا عليه ساعة دخلوا المختبر وشرعوا في الكتابة. لكنّ الغريب في الامر، وبرغم حقيقة حزنهم البيّن، أنّ هؤلاء وعلى مدى الستة شهور اللاحقة قاموا بعدد من المراجعات للمركز الصحي الطلابي يقاربُ نصف عدد زيارات الطلبة من المجاميع الاخرى(تسمّى المجموعة الضابطة Control Group، التي كتب أفرادها عن موضوعات عادية ليس منها الذكريات الحزينة والمعيقة).
قد يبدو هذا الامر أقرب إلى سحر عصي على التصديق؛ لكنّ الكَرَبَ الانفعالي -من أيّ نوع كان- يمكن أن يدمّر النظام المناعي للانسان. المعنى الدقيق والواضح لهذا الامر هو أنّ الضغط الانفعالي له مفاعيله السيئة على الجهاز المناعي من حيث انه يجعله أقلّ كفاءة في التعامل مع العلل الالتهابية Infection. هنا مكمن السحر في قدرة الكتابة التعبيرية على التأثير في أنفسنا وأرواحنا: لو أنّ الكتابة التعبيرية إستطاعت آخر المطاف جعلنا أكثر هدوءاً وتناغماً مع أرواحنا فيمكن لها - الكتابة التعبيرية-حينئذ أن تستعيد قدرات دفاعاتنا الجسدية(أو بكلمات تقنية واضحة:نظامنا المناعي) وتجعلها تعمل بكامل طاقتها، وهذا هو بالضبط ما كشفت عنه دراسة البروفسور بينبيكر وزملاؤه مستعينين باختبارات الدم. بيّنت الاختبارات أنّ أفراد المجموعة الذين عبّروا عن مشاعرهم الدفينة لأربعة أيام متتالية صارت كريات الدم البيضاء لديهم تشهد تكاثراً بمعدّل أسرع كإستجابة للغزاة الاجانب(فايروسات أو بكتيريا مرضية،،،،). بالاضافة إلى هذا الامر كشفت دراسات لاحقة أنّ الكتابة التعبيرية تستطيع التعجيل بزمن التعافي عقب عملية أخذ خزعة Biopsy، فضلاً عن أنها تبدو قادرة على تخفيض ضغط الدم وتحسين كفاءة عمل الرئة.
قد تكون العلاقة بين الاجهادStress والمرض واضحة؛ لكنّ ما ليس له وضوح مماثل هو قدرة الكتابة على امتلاك خاصية تطهّرية cathartic. هذا سؤال عصي على الاجابة السهلة الميسّرة أو الاختزالية. أحد الاحتمالات الممكنة هو أنّ تفريغ عقولنا من أفكار معيقة لنا عبر كتابتها يتيحُ لعقولنا قدرة إضافية - كانت معطّلة فيما سبق- في التفكير بموضوعات جديدة. يمكن وضع هذه الحقيقة موضع الاختبار بطريقة بسيطة للغاية: نعرف من خبرتنا اليومية أنّ كتابة لائحة بما نريد فعله -لائحة تسوّق مثلاً أو واجبات منزلية أو وظيفية- أمرٌ من شأنه تحرير القدرات الادراكية من الضغوط المباشرة وجعلها تتفرّغ للتعامل مع فعاليات أخرى أكثر اهمية من الفعاليات اليومية العادية والبديهية. التسويغ بسيط: عندما نكتب مثل هذه اللائحة فإنّنا نعمل على تقليل حجم المعلومات التي تجول في عقولنا. هذا الفعل -تسجيل لائحة يومية بالمهام المطلوبة- يخفّف الاجهاد، ولو حصل كتبنا لائحة بالمهام المطلوبة منّا في اليوم التالي قبل النوم فيمكن لهذا الفعل أن يحسّن نومنا كثيراً.
الكتابة التعبيرية يمكن أن تكون لها القدرة ذاتها في تخفيف العبء الواقع على عقولنا عبر تقليل مناسيب الاجترار السلبي للأفكار، ومن ثمّ تحرير الذاكرة الفعّالة من هذا العبء وتخصيصها للتعامل مع الافكار والاشياء الاكثر أهمية من القضايا العادية والبديهية واليومية العابرة. هذه الحقيقة تتماشى مع تجربتي الشخصية.عندما أشعرُ بأنني واقعٌ تحت عبء إجهاد يجعلني مكتئباً فحينها كلّ مصادر قلقي وتوجّسي تتجمّعُ في مركز عقلي وتصدّني عن أي مصدر من مصادر البهجة التي أعرفها –مثل القراءة-؛ لكن بعد أن أكتب بعض الشيء في كراسة يومياتي تبدأ شياطين الكآبة والاجهاد في عقلي بالتراجع نحو صفوف خلفية بعد أن أكون قد حجبت عنها الاهتمام الذي كان مستولياً على عقلي قبل الشروع بالكتابة.
ثمة أمر مماثل في أهميته لما سبق. كتابةُ ما يبعث على قلقنا وتوجّساتنا يمكن ان يخلق فينا حسّاً من التباعد النفسيPsychological Distance؛ الامر الذي يتيحُ لنا إتخاذ موقف أفضل تسويغاً من حيث المقاربة الفلسفية تجاه معضلاتنا.
لو أنّنا على سبيل المثال تأمّلنا في الاذى الذي سبّبه آخرون لنا فقد يكون من الايسر لنا -بدلاً من التفكير المباشر في وجهة نظرنا- أن نفكّر في وجهات نظر المسبّبين لتلك الآلام لنا، أو أن نفكّر في الدرس المستفاد من تلك التجربة والذي قد يساعدنا في التصرّف بطريقة أفضل في المستقبل.
بالاضافة لكلّ ما سبق ربّما قد نكون قادرين في بعض الحالات رؤية الجوانب الفكاهية من الموضوعات، أو على الاقل يمكنُ لنا أن نتحمّل مسؤولية ما حصل لنا بطريقة تبعدنا عن التفكير بالمآلات السيئة وتجعل الموضوع كله أخف وطأة. كتبت نورا إيفرون Nora Ephron في هذا الشأن:" عندما تنزلق على الارض بفعل قشرة موز فإنّ الناس يتضاحكون على سقطتك؛ لكن عندما تكتب عن واقعة سقطتك وتخبر الناس عنها بذاتك فحينئذ يكون الضحك نصيبك أنت وحدك". الكتابة التعبيرية لها هذه القدرة العظيمة في مساعدتنا على حيازة هذا التحوّل العقلي في حياتنا الشخصية.
ليس مِنْ طريقة كتابية مفردة ووحيدة تصلح للجميع. الكتابة التعبيرية ليست سوى وسيلة واحدة بين وسائل عدّة، وقد يجد عديدون منّا فكرةكتابة ما يعيق أرواحهم وعقولهم أو يستثيرها أمراً محبطاً لهم؛ لكن لو أردتَ ضمّ الكتابة إلى مجموعة أدواتك العقلية الشخصية فثمّة بعض الطرق -المؤسسة على شواهد متراكمة- يمكنها تعظيم الفوائد المتحصّلة من هذه الفعالية الكتابية.
من غير المجازفة بخسارة الكثير من تلقائية الكتابة فمن الافضل أن تسعى لأن تمنح كتابتك هيكلاً سردياً، كأنْ تقدّم صورة للخلفية الذهنية والمادية لما تكتب بشأنه مترافقاً مع سلسلة الوقائع التي قادت إليه. هذا أوّل المتطلّبات. الامر الثاني: كن دقيقاً بشأن المشاعر التي تختبرها وقت الكتابة. أهي إضطراب أم إحباط؟ أهي خيبة أمل أم تحرّر من أوهام سيطرت على حياتك؟ إنّ فعل تشخيص وتحديد وتبئير هذه المشاعر بكيفية دقيقة يمكن أن يجعل بصيرتك أكثر شفافية ومقدرة في ولوج المناطق البعيدة من عقلك. ثالثاً وأخيراً: تفكّرْ في كيف أنّ الحالة التي تكتب عنها تؤكّدُ خواصك الطيّبة والافكار والاشياء التي تقدّرُها أكثر من سواها. قد تكون تكتبُ بشأن صلابتك النفسية، أو لطفك وتعاطفك مع الآخرين، أو قد تصبح مدركاً وعلى نحو فجائي لأهمية صداقات محدّدة في حياتك. لو كنتَ قلقاً على نحو مكثّفٍ قبل الشروع بالكتابة فيمكنك أن تختار رسالة من صديق لك يمنحك فيها نصيحة طيّبة لتكون مدخلاً ليومياتك. هذا التمرين الكتابي له القدرة على تعزيز منسوب التعاطف الذاتي فيك ومن ثمّ يقود إلى تخفيض مناسيب الإجهاد والكَرْب.
إلى جانب كلّ ما ذكرتُ بشأن كتابة اليوميات فإنني أجدُ فائدة كبرى في تدوين تلك اللحظات السعيدة والمبهجة من حياتي. قد يكون قلقي عندما كنتُ مراهقاً قد مضى بعيداً ورائي وغاب في الافق البعيد؛ لكنّ تدوين يومياتي لم يزل مصدر سلوى لي، ومع تعاظم معرفتي بالادب النفسي فقد باتت لي القدرة اليوم على توظيف هذه اليوميات لتحقيق الغاية القصوى المتوخّاة منها. في أيّ وقت أشعر فيه بقلّة حيلتي وطغيان حالة الكرْب والاجهاد على عقلي وروحي فإنّ بضع دقائق أقضيها في الكتابة كفيلةٌ بإستعادة شعوري بأنّ العالم لم يزل مكاناً يمكن التعامل معه مهما كانت وسائلنا محدودة وفقيرة الامكانات.
قراءات إضافية
- Opening Up by Writing It Down by James W Pennebaker and Joshua M Smyth (Guilford)
- The Extended Mind: The Power of Thinking Outside the Brain by Annie Murphy Paul (Mariner)
- Write It All Down: How to Put Your Life on the Page by Cathy Rentzenbrink (Bluebird)
- ديفيد روبسُن David Robson: حاصل على درجة جامعية(بكالوريوس) في الرياضيات من جامعة كامبردج. متخصص في الكتابة عن الحالات المتطرّفة في الدماغ والجسد والسلوك البشري. يكتب في مواقع ومدوّنات عالمية مهمة فضلاً عن صحف عالمية مثل(غارديان) و(أتلانتك). مؤلف لكتب عديدة آخرها:
The Expectation Effect: How Your Mindset Can Transform Your Life
** آن فرانك Ann Frank: كاتبة ألمانية تعدُّ مذكراتها عن الحرب والمعنونة " يوميات فتاة صغيرة" مصدراً للعديد من المسرحيات والافلام. (المترجمة)
ملاحظة المترجمة: الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة (غارديان) البريطانية بتاريخ 24 نيسان (أبريل) 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الاسبوعية. العنوان الاصلي للموضوع باللغة الانكليزية هو:
Can writing make you healthier?
جميع التعليقات 1
ابو انكيدو
منذ 7 شهور
المقالة جيدة ولكنها مطولة و مليئة بالمصادر والأمثلة الغير معروفة للقارئ العراقي ! كان يمكن ان تكتب كتقرير مختصر وليس كترجمة حرفية مسهبة و دقيقة جدا ! تحياتي