ستار كاووش
لازلتُ أتذكر تلك النافذة الكبيرة التي جَدَّدَتها بلدية قريتي، حين تلألأتْ ليلاً كإنها مشهد من فيلم سينمائي يُعرض على الجدار الخارجي للبلدية. حينها كنت عائداً بدراجتي الزرقاء ليلاً، وتوقفتُ بسرعة بسبب جمال ورهبة المشهد. كانت تلك النافذة مصنوعة من الزجاج المعشق بالرصاص، وقد تعمدت البلدية إضاءة الأنوار في الداخل لتشع اللوحة نحو الخارج مثل شمس باهرة. وقتها أكملتُ طريقي ولا يشغلني غيرَ تلك النافذة وسحر التقنية التي حَوَّلَتْ قطعاً من الزجاج الملون الى إحتفال وبهجة وحياة. وكي تكتمل المفارقة، فقد إتَّصَلَتْ بي بعد بضعة أيام صديقة رسامة وحدثتني عن رسام متخصص بأعمال الزجاج المعشق بالرصاص، يعيش في قريتها ولديه رغبة بتنفيذ بعض لوحاتي بهذه الطريقة، وهو يقول كإنَّ لوحاتي قد أُنجزت حتى يتم تنفيذها بالزجاج المعشق بالرصاص. وافقت طبعاً على مقترحها وبدأ هذا الفنان بإعادة بعض لوحاتي بهذه الطريقة.
أرتبطتُ منذ زمن بعيد بهذا النوع من الرسم، وتأثرت به كثيراً وعرفت الكثير من تقنياته وأسراره. وما الخطوط التي تتقاطع وتتداخل في الكثير من لوحاتي سوى تأثيرات من هذا الفن المذهل والجميل. وحتى البقع اللونية التي تشبه الموزائيك في الكثير من أعمالي تأخذ هذا المنحى. في هذا الفن تُشَكَّلُ وتُصَمَّمُ النوافذ من قطع ملونة من الزجاج المحاط بحافات من الرصاص، حيث يبزغ تأثيرها من خلال ضوء الشمس إن كنت تراها من الداخل، أو بسبب الانارة الداخلية ان كنت تراها من الخارج. ويُستعمل الفولاذ أحياناً مع الرصاص في النوافذ الكبيرة كي تصبح أكثر متانة ومقاومة للظروف البيئية، وهي كانت في القرون الماضية تختص بالمواضيع الدينية حيث توجد غالباً في القصور والكنائس، لكنها مع الوقت صارت تشمل مواضيعاً مختلفة، لينفتح تأثير هذه التقنية على الكثير من الفنون، حتى انها صارت أساس وروح تيار الآرت ديكو.
في كل مدينة أزورها أبحث دائماً عن الأماكن التي تَعرضُ هذا النوع من الفن، وخاصة الكنائس القديمة التي مرَّ على بنائها سنوات طويلة، وبالذات الكنائس الكاثوليكية المليئة بالرسوم والايقونات والنوافذ المرسومة بالزجاج الملون. وفي زيارتي الأخيرة لمدينة ليل الفرنسية هيئتُ نفسي للذهاب الى كنيسة القديس موريس، وهي كنيسة قديمة بدأ البناء بها في القرن الرابع عشر، وتم تصنيفها فيما بعد بإعتبارها مَعْلَماً تاريخياً يحتوي على كل الفنون والبناء والأثاث والأعمال الفنية المهمة. ورغمَ ان الكثير من (ثوار) الثورة الفرنسية قد قاموا بسرقة العديد من أثاثها والأعمال الفنية التي تحتويها، وشرعوا بمحاولة هدم بعض أجزائها، بحجة تحويلها الى (مكان مدني)، لكن في بداية القرن التاسع عشر تم إعادة الكثير من قطع الأثاث المهمة لهذه الكنيسة، ثم قام المهندس المعماري فيليب كانيسي بترميم أجزاء كبيرة منها وإعادة التجانس على الكثير من تفاصيلها الداخلية التي تعود الى الطراز القوطي الجديد.
إقتربتُ من الكنيسة التي بَدا حجمها أكبر مما توقعته، حيث كانت محاطة ببعض الأشجار والأرائك التي تُتيح للناس بالجلوس والتمتع بهذه التحفة المعمارية الخالدة. دِرتُ حولها وتوقفتُ منبهراً بالجانب الخلفي الذي لا يقلُّ جمالاً عن الواجهة حيث أرتفعت بعض الأبراج الصغيرة الداكنة والمدببة، والتي منحت الكنيسة بعض الغموض والهيبة. ما أن خطوتُ الى الداخل حتى برقت أمامي النوافذ المغطاة بلوحات الزجاج المعشق بالرصاص. ها أنا وسط احتفال كبير بالجمال، الجمال الذي يعيدني الى بضع مئات من السنين، حين بنى الهولنديون هذه الكنيسة -كانت مدينة ليل وقتها جزءً من الاراضي المنخفضة- وصارت متعة للعين والروح والقلب. لم يكن الوقت كافياً للوقوف كثيراً أمام القطع النحتية والأثاث المذهل، بل أردتُ لهذه الساعات أن تكون بين ضوء أعمال الزجاج التي تشرق مثل أقمار وسط هذا الفضاء الهائل للكنيسة. هكذا إنتصبتْ نوافذ الضوء على الجدران الشاهقة، فيما أنا أَدورُ بمحاذاتها وأتنقَّلُ بين قطعها الفريدة، لا يهمني كثيراً إن كان الموضوع دينياً أم دنيوياً، بل ما يشغلني هنا هو الجمال التي تشع من هذا المكان، وأفكر بالفنانين العباقرة الذين أنجزوا هذه التحف التي لا ينطفيء جمالها على مَرِّ الزمن، هؤلاء الفنانون الذين ذهبوا وبقيت أعمالهم شاخصة كما جدران هذه الكنيسة التي تُفاخر بها مدينة ليل الآن. توقفتُ هنا وهناك محاولاً تتبع حركات وإتجاهات خطوط الرصاص التي تمسك بقطع الزجاج، وتُعيد تشكيلها، أنظر الى أزرق الكوبالت الملائكي بكل ما يحمله من هيبة، وأرى كيف يشع بقربه الأحمر القاني، فيما يتمرأي الأصفر بإعتباره سيد الموقف. الزخارف والزهور والاشكال الهندسية تتوزع بتصميمات مُحكَمة وملامح الوجوه تُلقي ظلالها بمهابة على كل المشهد. هنا عازفة هارب منشغلة بالنغم الذي يمكننا سماعة من خلال زخارف اللوحة، وهناك ملاك يُحرك جناحيه بدفء وترف، شموس وأقمار تتوزع بين فضاءات اللوحات وتمنحها شيئآً من الدفيء الممزوج بالسكينة، أيادي تمتد هنا وعيون تنظر هناك، وأرواح الفنانين تطوف في أرجاء المكان، ياللفن العظيم الذي يقترب من السحر. لتكونَ النتيجة بهجة لا يمكن أن نقول عنها سوى إنها عيد فني ولحظات جمال مسروقة من الزمن.
خرجت من الكنيسة التي تحولت الى معرض فني مذهل وكإني كنتُ وسط عرض ضوئي نادر، مشيت نحو شارع بير موروي، وهناك لمحتُ محلاً لبيع كعك الفافلس الذي تشتهر به مدينة ليل، أخذت واحدة وتأملتها، فبدت لي كإنها قطعة من الأعمال الفنية التي رأيتها وقد قفزت من بين اطارات الرصاص لتحط بين يدي. هذا ما يفعله الفن وهذا ما يمنحه الجمال من خيال. رَفعتُ الكعكة الصغيرة بيدي محيياً الكنيسة الكبيرة من بعيد ومضيتُ مبتهجاً بين الناس نحو مركز المدينة.