ستار كاووش
ها أنا موجود في مدينة لِيل، وهذا يعني تخصيص يوماً كاملاً لزيارة أهم متحف في فرنسا بعد متحف اللوفر، وهو قصر الفنون الذي يضم أعظم ما أنتجه مبدعو فرنسا والعالم. كان الجو غائماً حين مضيتُ من مركز المدينة بإتجاه المتحف، بدأتُ من شارع جورج مارتن نحو بوليفار الحرية، وهناك بانَ لي المتحف الذي إنتصبَ من بعيد وسط ساحة الجمهورية التي هي عبارة عن حديقة واسعة وجميلة في مركزها نافورة، محاطة بأماكن للجلوس ويتوسطها ثلاثة تماثيل بدت بهيئتها غير المكتملة تُثير الأسئلة. تأملتُ القصر من بعيد، وتساءلتُ مع نفسي عن كيفية مشاهدة كل محتويات هذا المكان العملاق خلال يوم واحد فقط. كان عليَّ الإسراع لإستثمار الوقت، وما أن دخلت حتى ضِعتُ بين أعمال فنية تعود لمدارس وتقنيات مختلفة. قرون من الزمان إختلطت بمدارس الفن وتياراته تشاهدها هنا وسط صالات هذا الصرح الذي تفخر به فرنسا. الأمر الرئيسي الذي هيئتُ نفسي لمشاهدته أولاً هو المعرض الذي يُقام بمناسبة مرور مائة وخمسين سنة علـى ولادة المدرسة الإنطباعية، مُمَنياً نفسي بالضياع وسط حقول مونيه ونساء رينوار وأشجار بيسارو المتراقصة. لكن ما أن مضيتُ بضع خطوات حتى كِدتُ إصطدم بعمل نحتي مذهل ومؤثر، حيث وقفَ أربعة رجال في نصب متوسط الحجم، بإرتفاع متر ونصف وعرض مترين ونصف تقريباً، ورغم إن العمل كان مُنَفَّذاً بمادة الجبس، لكن تقنية وحساسية ملامح الوجوه إستوقفتني فعلاً، فتابعتُ هيئة الرجال، وقرأت بعض المعلومات التي بجانب العمل، ليتضح بإنه يمثل أربعة من رجال المقاومة الفرنسية التابعين لحركة جاكي، والذين أعدمهم الألمان قرب قلعة مدينة ليل. وبما أني أبحثُ دائماً عن هكذا مفاجئات فنية غير متوقعة، لذا إستهواني الذهاب بعيداً مع هذا العمل، الذي تراجعتُ قليلاً الى الخلف لأتبين تفاصيله، يا للسكون ويا للتعبير والحركة الكامنة في الملامح والتفاصيل، بل يا لقوة المفارقة الفنية المبتكرة التي جعلتني أرى كيف يتحول الموت الى جمال من خلال الفن، وهذا هو سحر الفن الذي يحمل الكثير من التأثير والقوة. تأملتُ التفاصيل أكثر وتخيلتُ أصابع النحات وهي تُعالج الجبس بترف قلَّ مثيله ليحول موت هؤلاء الرجال الى شيء ثمين لأنه في سبيل الوطن. قررتُ مع نفسي بأن أعود الى هذا العمل بعد إطلاعي على محتويات المتحف، فمضيتُ عدة خطوات لكن العمل لا يُريد ان يُغادر تفكيري. أكملتُ خطواتي وسط زحام اللوحات والألوان المنتشرة في كل مكان، حتى إنبثق أمامي ذات العمل العظيم من جديد، لكنه هذه المرة منفذاً بمادة البروز. يبدو فعلاً أنه لا يريد أن يتركني وشأني، وكإن الجمال هنا يمسك بياقة قميصي ويسحبني نحوه عنوة ويُثبتني أمام هذا العمل الى الأبد، عندها لم يكن بوسعي سوى الإستجابة طائعاً ومنصاعاً لقوة خفية، والقبول بهذه الشراكة المذهلة للجمال الذي يكاد يكون لصيقي. هكذا قررتُ التوقف أكثر أمام البرونز الذي تحول الى معجزة فنية. أربعة رجال بملامح واثقة وإرادة صارمة يقفون بثبات جنباً الى جنب أمام جدار قديم قرب قلعة مدينة ليل لملاقاة مصيرهم وانتظار حركة الأيدي التي ستطلق عليهم النار. وبعدها بسنوات إنتهت الحرب ورحل الجنود واندحر الألمان عائدين الى بلدهم، لكن هولاء الأربعة بقوا واقفين هنا ليحكوا لنا عن حب الوطن والدفاع عن الجمال والمباديء. لايمكنني أن أشرح كمية النور التي تركها هؤلاء الرجال في نفسي، ولا عن الجمال الذي غَمَرَ به النحات روحي.
هذا النصب يعود للنحات الفرنسي فيليكس ألكسندر ديسرويل الذي منحه عنوان (القتل في الظلام)، وهو يتكون من أربعة أشخاص، وسيضيف النحات شخصاً خامساً له دور محوري أيضاً في الحدث. والرجال الخمسة ينتمون الى لجنة جاكيه التي قاومت الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى، وهم من اليسار الى اليمين، التاجر جورج ميرتنز، الملازم الأول يوجين دي كوننغ، والعامل سيلفير فيرهولست (وهو من أصل بلجيكي)، وفي أقصى اليمين تاجر النبيذ يوجين جاكيه، الذي كان أيضاً رئيساً لرابطة حقوق الانسان. وبعد هذا الحدث بإسبوع أطلق الألمان النار على العضو الخامس في المجموعة، الشاب ليون ترولين الذي كان بعمر الثامنة عشر من عمره.
في ذات اليوم كان عليَّ الذهاب الى ساحة دوبنتون لمشاهدة النصب الذي تم انجازة (أولاً) سنة ١٩٢٩ في احتفال مهيب، حيث يقف الرجال الأربعة فيما يبدو الشاب ليون صريعاً على الأرض، وقد أنجزَ النحات عملاً آخراً لهذا الشاب وهو موجود الآن في ذات الساحة، حيث يقف قريباً من أصدقاءه الشجعان. أصبح هذا النصب من أهم الأعمال الفنية الفرنسية التي مَثَّلَتْ المقاومة التي وقفتْ في وجه المد الألماني. لكن الحكاية لم تنته عند هذا الحد، فمع بداية الحرب العالمية الثانية، وعند دخول الألمان مدينة ليل من جديد سنة ١٩٤٠ قاموا بتهديم هذا العمل الفني بالفؤوس والديناميت، حتى تحول الى حطام. مع ذلك لم تهدأ روح المقاومة أو تستكين، فقد جمع الأهالي خلسةً قطع النصب المحطمة وإحتفظوا بها سراً، حتى جاءت نهاية الحرب بإندحار ألمانيا النازية، وهنا أخرج الناس قطع التماثيل المحطمة التي خبؤوها، وأعيدتْ دراستها من جديد، لتتمكن في النهاية جيرمين أوري ديسرويل وهي أرملة النحات، من إنجاز نصب جديد، مطابق بنسبة كبيرة للعمل الأصلي، وهذا النصب هو الذي وقفت أمامه في ساحة دوبنتون وألقيتُ التحية على هؤلاء الرجال الذين ذهبو وبقيتهم ذكراهم في هذا المكان. هنا تطلَّعتُ الى جمال الفن حين يضع يده على الحقيقة، فالجمال هو ظل الحقيقة، هو صورتها التي يراها كل شخص بطريقته الخاصة. فلا جمال دون حقيقة، كما ليس هناك إبداع من غير أن نضع هذه الحقيقة في مكانها الملائم والصحيح.