TOP

جريدة المدى > عام > التقدم والنمو في قرننا الحادي والعشرين

التقدم والنمو في قرننا الحادي والعشرين

نشر في: 10 يوليو, 2024: 12:04 ص

كيت راورث
ترجمة لطفية الدليمي
" من المفيد أن ندرك سحر مفهوم النمو. النمو - بصرف النظر عن رأينا الشخصي- طورٌ صحي مدهش في الحياة، وهو السبب الذي يجعلُ البشر أينما كانوا في العالم يتوقون لرؤية الأطفال والحدائق والأشجار في حالة نمو حثيث.. "

بدا تعريفُ التقدّم (الاقتصادي) في القرن العشرين واضحاً للغاية. كان مكافئاً لمفردة النموّ Growth مَقيساً بواسطة الدخل القومي، أو الناتج المحلي الاجمالي GDP. النمو من جانبه أفتُرِضَ فيه أن يكون لانهائياً، شبيهاً بمنحنٍ لا يكفُّ عن الارتفاع إلى الاعلى مع الزمن. لم يكن مهماً أبداً طيلة القرن العشرين كم كانت الامة تبلغ من ثراء؛ فقد إدّعى السياسيون والاقتصاديون بثبات راسخ أنّ الحلول العملية لمشكلات الامة - من الفقر إلى التلوّث- إنّما تعتمدُ على المزيد والمزيد من النمو الاقتصادي المضطرد. لم يتحقّق هذا الوعد ولم نرَ مصاديق له في عالمنا، وأظنُّ قد حان الوقت المناسب لإعادة التفكّر والنظر في شكل وطبيعة التقدّم (الاقتصادي) مع كلّ السياسات التي صُمّمت لتحقيق الرفاهية والازدهار لمجتمعٍ إنساني متشظًّ يعيشُ على سطح كوكب يفتقد التوازن والاستقرار إلى حدود تبعثُ على الرهبة والتحسّب لمآلات المستقبل.
من المفيد أن ندرك سحر مفهوم النمو. النمو - بصرف النظر عن رأينا الشخصي- طورٌ صحي مدهش في الحياة، وهو السبب الذي يجعلُ البشر أينما كانوا في العالم يتوقون لرؤية الاطفال والحدائق والاشجار في حالة نمو حثيث. ليس غريباً أو باعثاً على الدهشة أنّ العقل الغربي أبدى رضىً كاملاً للقبول بأن يكون النمو (البيولوجي) نموذجاً لشكل التقدّم الاقتصادي المنشود أيضاً، وفي الوقت ذاته تبنّى العقل الغربي مبدأ (أو شعار لو شئنا الدقّة) القرن العشرين الذي جوهرُهُ أنّ"الاكثر هو الافضل More is Better" على المستويين الشخصي والقومي.
لكن برغم هذه الرغبة الجامحة في مضاهاة الاقتصاد بالطبيعة فإنّ من الواضح أنْ لا شيء يستمرُّ في النمو إلى حدود لانهائية: أيّ شيء طبيعي يسعى للنمو اللانهائي خلال عملية صيرورته الطبيعية فهو إنّما يتسبّبُ بالدمار لنفسه أو للنظام الطبيعي الذي يعتمد عليه. الأشياء الطبيعية التي تنجحُ في البقاء والديمومة الطبيعية تديمُ نموّها حتى تبلغ حدّاً نسمّيه في العادة حدّ النضوج،ثمّ تتوقفُ عند ذلك الحد، وهذا هو بالضبط ما يسمحُ لها بالبقاء والاستمرارية ربّما لمئات السنوات. الامر يتصادى مع ما ذكّرتنا به جانين بينيوس Janine Benyus، عالمةُ المحاكاة الطبيعية Biomimicry، التي لا تفتأ تذكّرُنا بأنّ الاشجار تستمرُّ في النمو حتى أبعد مسافة تكون فيها قادرة على نقل المغذّيات إلى الاوراق والاغصان حولها،ثمّ تتوقف عن النمو بعد تلك المسافة. إنّ مسعى الأشجار في النمو محدّدٌ بهدفٍ أعظم شأناً من النمو لذاته، وذلك الهدف المنشود هو نقل وإدامة وصول المصادر الغذائية إلى ابعد نقطة ممكنة بما يحافظ على ديمومة وبقاء النظام الكلي (الشجرة في حالتنا هذه).
نستطيع بسهولة فائقة تشخيص حدود النمو في العالم الطبيعي؛لكنْ برغم هذا فإنّ الأمر يصبح أكثر تعقيداً بكثير عندما ينتقل ميدان المساءلة من العالم الطبيعي إلى ميدان الاقتصاديات القومية والعالمية. علينا إبداءُ كلّ إمارات الشكر والاعتراف بجميل الصنيع لتوفّر الطاقة المعتمدة على الوقود الاحفوري رخيص الثمن في القرن العشرين؛ فهذه الطاقة الرخيصة هي التي جعلت النمو الاقتصادي السريع يبدو حقيقة بديهية وطبيعية وأساسية لا يمكن الاستغناء عنها أو التفكير ببديل لها. تسبّبت استمرارية هذا الفهم ورسوخه عبر عقود عديدة في خلق سياسات مؤسساتية حكومية أو خاصة -بدءاً من خلق الائتمان المالي إلى حملة الأسهم وصناديق التقاعد- تعتمد كلها اعتماداً هيكلياً مشتبك البنيان مع فكرة "النمو من غير نهاية". بكلمات أخرى: ورثنا إقتصاداتٍ تحتاجُ إلى النمو المستديم بغضّ النظر عمّا إذا كانت تعملُ على إزدهار أوضاعنا أو لا تعمل. النمو الاقتصادي بدا حتمية مطلوبة لذاتها.
صار مطلبُ النمو الاقتصادي المستديم وكأنّه لازمة ضرورية محتّمة لكلّ النظريات الاقتصادية والسرديات السياسية والتوقعات العامّة خلال عقود عدّة حتى بلغنا طوراً شهدنا فيه تصميم مقاييس يائسة -بل وفي الغالب مدمّرة- من أجل إعادة بعث الحياة في مفهوم النمو عندما بدا مخادعاً لا يشير لتقدّم بشري أو إقتصادي حقيقي. عمدت الحكومات حينها في العادة إلى رفع الضوابط deregulate الحاكمة لأسواق المال (تحرير السوق كما يقالُ في الدوائر الشعبية،المترجمة) على أمل تعزيز الاستثمارات الجديدة؛ لكنّ ما حصل لاحقاً هو التسبّب في فقاعات مالية إنفجرت وتسبّبت في نتائج كارثية خطيرة مثل تلك التي حصلت مع الصعود المجنون لأسعار العقارات – ذلك الصعود الذي غذّى أزمة المديونية التي نشأت عنها الكارثة المالية لعام 2008. وعدت الحكومات بالكثير الذي لم نرَ منه سوى إحتفاليات "قصّ الشريط الاحمر" لمشاريع جديدة؛ لكنّ ما حصل على أرض الواقع هو تآكل التشريعات القانونية التي أقِرّتْ للحفاظ على حقوق العمّال والجماعات المهنية والعالم الطبيعي كذلك. خصخصت الحكومات الخدمات -من الماء إلى قطاع المستشفيات-، وهي بفعلتها هذا حوّلت الثروة العامة إلى قنوات تربّح خاصة لم تعمل على الارتقاء بالخدمات التي إدّعت انها جاءت لخدمتها بطريقة أفضل ممّا فعل القطاع العام بها في عهد ما قبل الخصخصة. الأخطر من هذا أنّ الحكومات أضافت البيئة إلى قائمة الثروات القومية واعتبارها "خدمات نظام بيئي" سيفضي بالضرورة إلى نشوء "رأسمال طبيعي" بعد أن يتمّ إقرانُ قيمة به بما يؤدّي إلى حقيقة خطيرة وهي تسعيرُ العناصر البيئية: تصبح البيئة سلعة لها سعر محدّد وتُباع وتشترى كما أي سلعة أخرى. نشهدُ مثلاً برغم الالتزام الدولي الشامل بالابقاء على الاحترار العالمي " أقلّ من درجتين مئويتين"** فإنّ الحكومات تفتح خزائنها لدعم الاستكشافات الجديدة في قطاع الوقود الاحفوري، وفي الوقت ذاته فهي تفشلُ في تعزيز السياسات الداعمة لإستثمارات عامة مطلوبة وضرورية لتحقيق نقلة نوعية باتجاه ثورة الطاقة المتجدّدة.
بدلاً من السعي لتحقيق نمو إقتصادي حثيث لا ينتهي أظنُّ أنّ الوقت قد حان للسعي لتحقيق رفاهية إنسانية متوازنة لكلّ البشر، ويتوجّبُ أن يكون هذا السعي الاقتصادي جزءاً من عالم يعيش فيه البشر حياة صحية يعمل فيها صانعو السياسات على تحقيق هذا الهدف. سينشأ عن هذا الامر مفهومٌ مختلف للغاية للتطوّر الاقتصادي: بدلاً من السعي للنمو اللانهائي سنعملُ على بلوغ توازن دينامي بين الحاجات الاساسية لكلّ فرد، وفي الوقت ذاته نوفّرُ الحماية الكافية للنظم الداعمة للحياة على سطح كوكب الارض. ولمّا كنّا وارثي الاقتصادات التي تحتاجُ للنمو المستديم (إشارة إلى الاقتصادات الاكثر ثراءً في العالم، المترجمة) فإنّ التحدي الحرج الذي ستواجهه البلدان عالية الدخل القومي يتمثلُ في خلق إقتصادات تساعد البشر أينما كانوا على البقاء بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الاقتصادات تحقق النمو أم لا تحققه.
إنّ مواجهة معضلة اللامساواة ومن ثمّ عكس مفاعيلها تستلزمُ أن تكون في مركز اهتمام عقد contract بيئي- إجتماعي جديد. هذا العقد الجديد لن يتكفّل بجلب منافع للبشر طبقاً لإعتبارات تحسين معايير الرضا عن الحياة التي يعيشها المرء؛ لكنه فضلاً عن هذه الفائدة المهمّة فإنّه يُقلّلُ حجم مخلفاتنا البيئية على مستوى الدولة؛ إذ أفادت مصادر جيدة التوثيق للشواهد المتراكمة بوجود علاقة طردية بين العدالة الاعظم في توزيع الموارد مع مستويات الاستهلاك الاكثر إعتدالاً قياساً بمستويات الاستهلاك المفرطة في الدول الغنية في يومنا هذا. لا يخلو الامر كذلك من منفعة سياسية: إحدى النتائج المدمّرة للإقتصاد المدفوع بعنصر النمو والعامل على تدعيم اللامساواة هي تركيز الثروة والقوة الاقتصادية في يد قلّة مخصوصة من البشر. هذه القوة الاقتصادية يمكن بسهولة فائقة تطويعها للتأثير في نتائج الانتخابات وعملية صنع السياسات بما يؤدّي إلى تدعيم ركائز النظام الذي يزيدُ ثروة من هم أثرياء أصلاً ولا ينتبه لمصالح غير الاثرياء.
عندما نغادرُ مفهوم النمو كهدف علوي أوحد للإقتصاد فيمكننا حينئذ التركيز بكيفية مباشرة على مساءلة ما الذي يخلق الرفاهية الاجتماعية والبيئية معاً. الجواب الواضح هو إقتصادٌ مصمّمٌ منذ البدء ليكون قادراً على إصلاح أعطابه، ويعمل على توزيع عوائده على الجميع بطريقة منصفة ومقبولة. هناك العديد من هذه الموديلات الاقتصادية، منها على سبيل المثال موديل التحوّل الصناعي صفري النفايات وقليل التلويث الكاربوني للبيئة مع دعم كبير للوظائف التي تعزّز الثورة الخضراء (الوظائف التي لا تساهم في تلويث البيئة، المترجمة)، وإلى جانب هذا تعمل الحكومات الداعمة لهذا الموديل الاقتصادي على توفير نقل عام مجاني وضرائب تصاعدية على الثروة. مثلُ هذه السياسات الاقتصادية كانت تعتبرُ مغالية في تطرفها وعصية على التحقق كسياسة واقعية قبل عقد من اليوم؛ أما اليوم فهي تبدو أساسية وضرورية لإنقاذ عالمنا من بعض معضلاته الكارثية الكثيرة.

  • عن ثقافية الغارديان
  • كيت راورث Kate Raworth: خبيرة إقتصادية بريطانية تعمل في جامعتي أكسفورد وكامبردج. إبتدعت مفهوم إقتصاد الدونات Doughnut Economics الذي قدّمت فيه نموذجاً أقتصادياً بوازنُ بين الحاجات البشرية الاساسية ومتطلبات الحفاظ على الاستدامة البيئية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram