د. قاسم حسين صالح
في (13 تموز 1995) خسر العراق والعالم العربي عالم اجتماع كبير هو الدكتور علي الوردي،الذي تجاوز تأثيره حدود النخبة الى الناس العاديين،وتعدت شهرته حدود الوطن والعرب الى العالمية،يكفينا ان نستشهد بمقولة البروفسور جاك بيرك الذي وصف الوردي بأنه (كاتب يحلّق الى العالمية باسلوبه الذي يضرب في المناطق الحساسة في المجتمع كفولتير).
واذا كان (مشروعا او مبررا) انه لم يجر له في الزمن الدكتاتوري موكب تشييع يليق بمكانته العلمية، فان ذكرى وفاته مرّت و تمر في الزمن الديمقراطي دون ان نحييها علميا في جامعاتنا، ولا اعلاميا في الفضائيات والصحف العراقية.
الوردي.. كما عرفته
تعود علاقتي بالدكتور علي الوردي إلى عام " 1989 ". ففي تلك السنة كان على رأس وزارة التعليم العالي وزير مثقف بثقافة فرنسية محب للأدب والثقافة والفلسفة، هو الدكتور منذر الشاوي.وكان من نشاطاته الثقافية أن اصدر جريدة رصينة باسم " الجامعة "،وكنت انا مسؤول الصفحة الأخيرة فيها، فخططت لاجراء حوارات مع الرموز العلمية والثقافية لأعمل ارشيفا لمفكّري العراق ومبدعيه،فبدأت بأول وزيرة للتعليم العالي الدكتورة سعاد إسماعيل،وكان هدفي الثاني هو الوردي الذي زرته بداره الواقعة خلف إعدادية الحريري للبنات في الأعظمية،واجريت معه حوارا نشر المسموح به في حينه مع صورة كاريكاتيرية بريشة الفنان "علي المندلاوي".
لم ينشر الحوار كله، فسألني عن السبب فأجبته: " إذا نشر يا دكتور فسيكون طريقك لبو زعبل"، فرد مازحا: " والله إذا أنا وأنت سوا..يا محلاها ". وتطورت العلاقة إلى صداقة وزيارات في بيته.
وكنت أحرص ان ادعوه لكل ندوة علمية يوم كنت خبيرا بمركزالدراسات بوزارة الداخلية. ففي الدراسة الميدانية بعنوان:(البغاء..أسبابه ووسائله وتحليل لشخصية البغي) والتي تعدّ الأولى من نوعها في العراق والعالم العربي من حيث نوعية ادوات البحث والاختبارات النفسية،وعدد البغايا والسمسيرات(300 بينهن من لها علاقة بمسؤولين كبار!)،أتيت بالوردي واجلسته في الصف الأول في ندوة دعت لها وزارة الداخلية ضمت اكاديميين وقضاة. وحين انتهت الندوة مدّ يده نحوي وسحبني (على صفحة)وقال:
" تدري دراستك هاي عن (الكحاب) تذكرني بحادثة ظريفة. في الأربعينات ناقشت الحكومة موضوع فتح مبغى عام في بغداد،وعقدت لقاءا ضم كلاّ من الوصي ونوري سعيد ووزير الداخلية ووزير الصحة ومدير الأمن العام. فاتفقوا على الفكرة لكنهم اختلفوا على المكان، بين الباب الشرقي وساحة الميدان. وكان بين الحاضرين شخص مصّلاوي يجيد فن النكته فقال لهم:
ان افضل مكان للمبغى هو الميدان والما يصدّق خل يروح يسأل أمّه! ".
خلاف..علمي
كنت اختلف مع الوردي بخصوص رأيه في الشخصية كونها اختصاصي الذي ادرّسه في جامعات عراقية وعربية، ولي فيها خمسة مؤلفات، ثلاثة منها كتب منهجية في اقسام علم النفس. وكان اول اختلاف علمي معه هو عن (ازدواج الشخصية) وقد اوضحنا خطاه العلمي بمقالة موثقة في غوغل. ومع ذلك فان المصطلح شاع واقترن باسمه وصار حديث الناس.ومن جميل ما استشهد عنه قوله:
- إن العراقي، سامحه الله، أكثر من غيره هياما بالمثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافا عن هذه المثل في واقع حياته.
- حدث مرة أن أقيمت حفلة كبرى في بغداد للدعوة الى مقاطعة البضاعة الأجنبية، وقد خطب فيها الخطباء خطبا رنانة وأنشد الشعراء قصائد عامرة. وقد لوحظ آنذاك أن اغلب الخطباء والشعراء كانوا يلبسون أقمشة أجنبية والعياذ بالله.
- ومن العجيب حقا أن نرى بين مثقفينا ورجال دين فينا من يكون ازدواج الشخصية فيه واضحا: فهو تارة يحدثك عن المثل العليا وينتقد من يخالفها، وتارة يعتدي أو يهدد بالاعتداء لأي سبب يحفزه الى الغضب تافه أو جليل، ضاربا عرض الحائط بتلك المثل التي تحمس لها قبل ساعة.
العنف.. والشخصية العراقية
مع اشتداد العنف في العراق، كثرت مقالات في الصحافة يحلل أصحابها الشخصية العراقية بمفاهيم الراحل الدكتور الوردي، عازين العنف فيها الى " صراع البداوة والحضارة"، فيما عزوناها نحن إلا أن العامل الرئيس للعنف في الشخصية العراقية بعد 2003 لا يعود الى " صراع البدواة والحضارة " إنما الى طبيعة " الصراع على السلطة "..
ومع ذلك، كانت تحليلات الوردي ممتعة ومدهشة، وستبقى تراثا فكريا رائدا لعالم اجتماع فذ بقامة إبداعية باسقة. غير أن الفاصل الزمني بين ما عليه الشخصية العراقية الآن وما كانت عليه قبل نصف قرن، وطبيعة الأحداث الكارثية التي شهدها العراقيون في العقود الأربعة الأخيرة، تجعل الأسباب التي عزاها الوردي للعنف في الشخصية العراقية تتراجع لصالح أسباب أخرى أقوى وأشد تأثيرا،اوضحناها فيما بعد بكتابينا: (الشخصية العراقية في نصف قرن) و (الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية).
قبلة الوداع
كنت اجلس على فراش مرضه في داره الواقعة خلف اعدادية الحريري للبنات في الأعظمية، فقال لي: - تدري قاسم.. شيعوزني هسه؟
نظرت اليه والدمعة احبسها،فقال:
*ما يعوزني الآن هو.. ايمان العجائز.
نظرت اليه والدمعة احبسها، فمد يده نحوي، وقال:
تدري آنه ما احب الماركسيين، بس الك.. احبك..تعال ابوسك. وكانت قبلة الوداع!.
لك منّا ايها العالم المبدع، المفكر من طراز رفيع، الجريء، الجدلي الساخر..كل الاحترام والتقدير والذكر الخالد..راجين ان يكون فيما كتبناه يوفيك بعض حقك علينا، فنحن الأكاديميين، كما يقول المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق ان لم يسعد الحال.
مع أمنية كنت قبل عشر سنوات قد دعوت قادة الكتل الشيعية الى اقامة تمثال للوردي يوضع في مدخل جسر الأئمة من جهة الكاظمية ووجهه نحو الأعظمية مادّا نحوها يدا مفتوحة..وما فعلوا!..ولكم ان تقولوا لهم الآن..أن افعلوا..