اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > دائماً محنة البطل

دائماً محنة البطل

نشر في: 16 يوليو, 2024: 12:02 ص

ياسين طه حافظ

هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.
قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.
لسنا معنيين الان بصفة نيتشه وهل كتابه هذا ادب ام فلسفة، ومتى يكون الادب فلسفة ومتى لا يكون.. هذه اشكاليات تتولاها احكام بعضها ينتمي للنقد الادبي وبعضها للابداع الفكري، وبعض من الكتّاب ما اراد ادبه يخلو مما يجعله رصيناً واكثر اهمية ثقافية، فجعل للافكار مدى واضحاً فيه. ما يعنيني الساعة هو قولةُ نيتشه على لسان زارادشت او زارا:
"يا للغرابة ان ينتهي الانسان على قيد شبر من هدفه.
تقدموا، وجروا البطل بشعره لابلاغه الجنةَ التي أتى اليها…"
اقرؤا النصّ ثانيةً.، فأنا سأقلبه لأرى باطنَهُ.. لماذا قضى البطل على قيْد شِبْر من هدفه؟ اعيد السؤال: لماذا لا نُحقق اهدافنا؟ ولماذا حتى بعد ان نكون قطعنا الطريق كله اليها وكدنا نمدّ اليد لنمسك به، نسقط ضحايا او خاسرين او خائفين نتراجع، او نترك الموقع او الكنز او – الهدف ليكون حصة من جاء عَرَضا، او احتيالاً او أُعطيَ سلاحاً ليطردنا ويناله؟ وما جدوى بطولتنا بعد هذا المسار او بعد هذا السقوط؟ الكلام كثير والاسباب كثيرة صحيحها والكذب. لكن الحقيقة الاخيرة هي سقوط البطل على قيد شبر من هدفه!
خذوا ما شئتم من الاحزان اشعارا ورسوماً وخصومات وكلام مقاهٍ او شروحاً في الكتب وتحاليل…
والغريب ان نيتشه، وهو فيلسوف القوة والتفوّق، يأسى لهكذا بطل. لكنه يدرك ايضاً المدى الحقيقي لعمق هذه البطولة او حقيقتها ساعة إضاعتها. فلو كان بطلاً حقيقيا اصيلاً لما خمدت حماسته وما تعثر وافتُضِح ضعفه او عيبه قبل الوصول. ولما راح مرتبكاً امام الناس يلمّ شتاته. محنةٌ اخرى هذه، انه بطل بطولته فجأة تغادره فأسقطه اولُ شرٍّ اعترض طريقه ونثر في رياح العالم اوراقه.
السقوط كان كامناً في داخله ووجد انعدامُ الاصالة فرصته، فلا طاقة وقّادة ولا حضور مشعّ ولا فيض تعابير افاده. الانسان رهين ضعفه، فجأةً ما ينتصرُ الفاديّ فيه! والإغراء غالباً ما سيكون سيد الموقف!
اما اللغة التي تتوسل بها، فلا تنفع في النزال، هي لا تجبر كسراً ولا تنقذ او تسعف. وليس غير افتصاح المُغطَّى بقش، الكلام والعري كاملاً امام الناس وفاقدة المعنى جميع الكلمات.
لكل منا ساعة حزن. وكثير من الفرسان كبوا بعضهم فقط نشعر من اجله بالاسف: يتناقص دائماً عدد متسلقي الجبال… ذلك هو العزاء الذي نكرره..
في مكان قريب منا افتتح معهد شيطاني يعلّم التسلق والكذب الذي لا يشفّ و بطل نيتشه، حديث اليوم، لم يدخل دورة تدريبية فيه، هو اعتمد على مواهبه، لكن ما عادت الفطرة تكفي وما عاد الذكاء يكفي في عالم متفسخ فسد فيه حتى الهواء، فكل من أخيار المدينة أغلق بابه ونوافذه وقطع الكلام.
ثمة فقرة في النص مهمة ونافذة، هل انتبهتم لها؟ يقول مكمِّلاً كلامه:
… تقدموا وجرّوا البطل بشعره لابلاغه الجنة التي وصل اليها!
هو اقصى اللوم واقصى التقريع! تقدموا وجروا البطل بشعره ليرى بعينه!
ضعوا ايديكم على رأسه واحنوه، اديروه باتجاه خيبته.."ليرى الجنة التي اتى اليها"!
ليرى الخيبة بأم عينيه، ليرى فضيحته! هو لولا الحماسة الفارغة، لولا افتقاد الحقيقة ولا فهمه لواقعهِ، ولولا سطوة الوهم عليه لما اصطدم بالخيبة هذا الاصطدام الفاضح..
لم يكن اختياري لقول نيتشه لالوم او أشفي عليلاً ولا اردت شتماً او شماتة. ولكن استوقفني القول وتأملت ما وراءه وفرض الواقع اليومي عليّ ما يحمل من تعاسات وخزعبلات واوجاع بعضها مضحك لتفاهته وبعضها مؤسف مؤلم، لا انا ولا انت تمنينا نسمع مثلها فنزيد سآمتنا سآمة واسفنا أسفاً.
فهل نحن الان بحاجة الى جر البطل بشعْرِه ليصحو وليرَ مخزيات وشنائع عالمه فلا يحلم احلام صغارٍ ارادوا اكثر مما استعدوا؟ واذا كانت ثمة جدوى، فما قيمتها بازاء عِلْمِه ان كان عالماً مخلصاً لعلمه؟ وان كان مؤمناً فكيف نسيَ ربه؟ فلنرحم انفسنا ولنحسم الاختيار: اما مع الحياة وشرفِها الانساني وقِيَمها، وامّا ان تنزل للسوق باعةٌ محترفين.
لا الوم اياً من الطرفين، ولن اجر البطل بشعره ليرى خيبته ولا اقول للمتكسّب كفّ، نريدك أصفى، وذاك سعى واخفق وهذا ما يزال يسعى وتصاعد الغبار، واخر واقف في التقاطع لا يدري ما يفعل.. من هو للادب والثقافة والفن ليس له غير الادب والثقافة والفن، والا فسيخسر الثقافة والفن ويطرده التجار من السوق!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

إنهيار اليوتوبيا الأمريكية في العراق

العمودالثامن: مرجان أحمد مرجان يطارد فلاح حسن

عن النقابات واخواتها سبيلا

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram