زهير الجزائري
(1-2)
عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر تموز اللاهب. حلمت بأنني أحلب بقرة وإن الحلب يجهدني بمقدار ما يجهد البقرة التي لا أرى رأسها وهي تتهيأ لتنطحني.
في الصباح الباكر نزل خالي سعيد من غرفته في الطابق الأعلى مندهشا وقلقاً وقد انقطع البث الإذاعي فجأة وهو يكرر كلمة (غريب!). ليس عطلاً في البث، كان يقدّر، لا بد أن حدثاً كبيرًا قد وقع. الحدث موجود في مؤخرة دماغ كثير من العراقيين..ثورة على الطريقة المصرية. سيستيقظ ضابط قبل الجميع و يسقط النظام الملكي الهشّ ويقيم الجمهورية.
لم يتأخر الأمر طويلاً أمام مغالبتنا بين النوم والتنبه للحدث حتى صرخ بين الهلع والفرح:
- جمهـــــــــــــــــــــــورية!
لم أستطع وقتها تخيل جمهورية من دون ملك. فالملكية قدر العراق الوراثي..هكذا علمتنا أناشيد المدرسة، ووجه العملة التي نتداولها. حقاً أن مصر سبقتنا بالتحول من الملكية الى الجمهورية. لكن الملك وتاجه ترسخ في وعينا (مصون غير مسؤول). لم نعرف دوره في الحياة السياسية، لذلك نحيل الجرائم وكل السيئات لخاله الوصي عبد الإله ولملك العراق الحقيقي نوري السعيد.
تذكرت إطلاق الرصاص على طلبة ثانوية الخورنق وقميص (أحمد الدجيلي) الملطخ بالدم، تذكرت خالي ورفاقه بالكاد يوصلون لنا كلماتهم من وراء حواجز السجن… سخطنا آنذاك تركز على نوري السعيد، وصالح جبر ولم نذكر الملك في هتافاتنا. تذكرت مظاهراتنا وقلت إننا شاركنا في هذا الحدث حين كسرنا رحلات الصف وانتزعنا صور الملك من الجدران عام 1956، وحين هتفنا أمام بنادق القوة السيارة "الخبز لا الرصاص!"
في شارع النواب رأيت شباناً احترفوا الكتابة على الحيطان يخطون بالأحمر على جدار أبيض كلمتين:
الجمهــــــــــورية العراقــــــــــــية!
أمامها علامة تعجب. لم أعرف آنذاك إن كانوا يستغربون التغيير أم أرادوا تثبيته كبديهية. خوالي غادروا البيت على عجل للتجمع أمام وزارة الدفاع ليساندوا مع متظاهرين آخرين قيام الجمهورية. قبل الظهر بقليل رأيت متظاهرين يركضون على الأسفلت الحار وعلى وجوههم مزيج من الإثارة والهلع يحملون على عمود من الخشب كف الوصي عبد الإله وقد دقت بمسمار. لا أدري لِمَ تركت رصيف المتفرج ونزلت أركض مع المتظاهرين لأحدّق عن قرب باليد المصلوبة. ما الذي جذبني نحو هذا القرف وأنا أعرف أنني سأندم على ما رأيت؟! الفضول كان دائماً أسرع عواطفي، وآخرها الندم. عقاباً لنفسي تقربت فرأيت الكف مزرقة وقد تخثر عليها دم مزج بالتراب. الأصابع تقلصت كأنها تريد أن تقبض ثانية على حبل الحياة التي انتزعت. أهي اليد الدقيقة الأصابع التي كانت تحيينا من داخل السيارة ونحن بملابس الكشافة لاستقبال الوصي عند زيارته النجف؟ أهي اليد نفسها التي أردت أن ألمسها فسقطت، وهل المتفرج هو ذاته في الحالتين؟ تملكني هوس المتظاهرين وأنا أركض على الاسفلت الحار وألتفت بين آونة وأخرى الى الخلف، إلى اليد المصلوبة على الخشبة، أندفع و أهتف مع الهاتفين:
-الخاين شعبه نكص إيده!
أصرخ للتخلص من هلعي و قرفي و لأحسم موقفاً مع نفسي بأنني أنتمي لهذا الجمهور الراكض أمام متفرجين وقفوا على الرصيف انقسموا بين التأييد والاستنكار والتردد.
لم يخرج خالي سعيد للمشاركة وحتى لم يقف مع المتفرجين. كان مشغولاً بالمخاطر أكثر من (المنجزات) الدموية في الشارع المجاور. بقي قلقاً طوال الليل يتابع تحركات الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط مهيأً للتدخل في العراق وحالة التأهب القصوى التي وضعت فيها القوات البريطانية في الخليج والأردن:
-مادام نوري السعيد طليقاً، فالخطر مازال يتهددنا، سيعود مع قوات بريطانية وأمريكية.
لم أره مهموماً و منغمراً في السياسة كما هو الآن. أذنه على الراديو حتى ساعة متأخرة من الليل، ويلتفت الينا بدون أن ينظر في وجوهنا مباشرة ليطلق تعليقاً وقد اتسعت عيناه كأن مصير البلد معلق بفكرته.
في يوم الثورة الثاني أعلن خبر مقتل نوري السعيد وهو يرتدي عباءة نسائية بان من تحتها بنطلون الرجل. عضّ خالي سعيد شفته ورفع قبضة يده:
-إذن نجحت الثورة!
الدسائس والتكتلات والمحاور الخلفية اقترنت باسمه، وبه اقترنت الأحكام العرفية وما رافقها من سجون للسياسيين وتعذيب وتعليق جثث المعدومين. المنفذ الأساسي للسياسة البريطانية وداعية وجودها وأحلافها العسكرية. بتربيته العسكرية استخف بالبرلمان والحياة الدستورية حتى انطبق عليهما وصف الرصافي:
علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرّف
جثث
في الظهيرة الحارة اخترق شارع النواب متظاهرون يجرّون على الأسفلت الحار جثة (نوري السعيد) وقد اسودت من الحرارة. مصير عجيب ومفزع لرجل كان طاووس الحكم في العراق. خياله وهو غائب عن الوزارة يخيم على من يحل محله، فهو الآمر الناهي وصانع الملوك والوزارات، المتباهي دوماً بأن (دار السيد مأمونه). رائحة الموت كتمت أنفاسنا نحن الواقفين على الرصيف. رائحة ثقيلة و مدوّخة فاقت المشهد. من وراء الرائحة رأيت المتظاهرين يركضون ويلتفتون إلى الخلف غير مصدقين ما يجرونه خلفهم. مازلت مأخوذاً بالدهشه قبل الفزع والقرف. من جانبي على الرصيف قفز شاب، اخترق الكابوس وداس الجثة الزاحفة بسخط كأن لديه معها ثأراً شخصياً. المتظاهرون أخذوا الجثة وأحرقوها في بستان (عبد الهادي الجلبي) وأعادوا سحلها عبر الشارع نفسه. برغم قرفي لم أستطع انتزاع عيني من المشهد الذي احتواني كما الكابوس. لم أر في التمثيل بجثّة الميت تعبيراً عن إرادة شعب كبتت إرادته طوال عقود، ولا انتصاراً على طاغية ولا مظهراً للشجاعة في معركة.. الميت مات وفقدت المواجهة عنصر التكافؤ. تربيتي النجفية علمتني قدسية الميت، فقد رأيت الأقارب والمعارف يتزاحمون على حمل جنازة ميتهم وقد غطيت بإزار من القطيفة مطرز بآيات القرآن، وتابعت بعينين فضوليتين بأية عناية ودقة تغسل جثة الميت بالسدر وتنظف كما النحت ثناياها و ثقوبها قبل الدفن. ورأيت الزوار في ضريح الإمام علي ينزاحون جانباً لكي يفسحوا الطريق للجنازة كي تدور حول الشباك. سمعت شهقات الآباء والإخوة ونحيب الأمهات حين يهال التراب على الجثة… حفظت عن ظهر قلب كل كلمات الرحمة التي تقال في توديع الميت وقد تطهّر من ذنوبه الأرضية بانتظار حساب ربه.
كنت وما زلت موهوماً بأن عقاب الضمير يكافئ الجريمة مهما كبرت كما في قصيدة الشاعر(بلند الحيدري) توبة يهوذا:
يا صغاري
أنا أدري
إن عاري
قصة تنساب في التاريخ
من دار لدار
…
أنا أدري
كلما التف شتاء حول ناري
ذكروا اسمي و إثمي
خنجر يوغل في قلب صغاري
فانكروني….
توهمت بإصرار بأن عقاب الضمير كافٍ للردع برغم أن التجارب علمتني أن دهاء الإنسان أعطاه حلاً لعذاب ضميره بالتمادي في الجريمة حدّ الإدمان وستعطيه العقيدة غطاء للتبرير.
في الليل بقي المشهد عالقاً في مخيلتي، وتمدّدت الجثة على طول الشارع وسدت المنافذ إليه، وقطعت طريقي لمشاهدة مسلسل روبن هود في تلفزيون المقهى المجاور. سألت خالي سعيد بمزيج من الاستفهام والاستنكار:
-لماذا؟
-هو الذي صنع هذه الكراهية.
-… - الذين أحرقوه أرادوا التأكد من عدم عودته.
لم أقتنع بكلامه و في داخلي شعور غامض بأن العنف سيجر العنف عند شعب لم يعرف التسامح بعد. هذه الجثة ستكبر لتحتل البلد بكامله.