زهير الجزائري
(2-2)
الحكومة الجمهورية الأولى
عشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.
في متوسطة الخورنق، حيث الغلبة الساحقة للشيوعيين طلاباً ومعلمين، كان الطالب الشيوعي (زهير شكر) يمرّ على الصفوف مقاطعاً المدرس بابتسامة مؤدبة داعياً الطلاب باسم (اتحاد الطلبة) لحضور اجتماع في القاعة الكبيرة. يتكرر ذلك مرة في الأسبوع على الأقل. ومن دون أن يوجهنا أحد كنّا نصفق كلما ذكر واحداً من ثلاثة: ثورة 14 تموز، الجمهورية العراقية، وبحماس أكثر اسم (الزعيم الأوحد) عبد الكريم قاسم. كان زهير شكر مولعاً بمنصة الخطابة الخشبية. يتكئ عليها بيديه ويدفع وجهه عبرها إلى الحشد مثل لينين. يفكّر قليلاً وهو ينظر الينا وقد أتينا طائعين وباستسلام مسبق، كيف يمكن دوزنة مشاعرنا؟ يحذرنا من مؤامرة، كبيرة، كبيرة، كبيرة … لا يقول ماهي المؤامرة إنما يقطعها بالصمت، وشفتاه ترتجفان من هولها… لا يقول أين المؤامرة و من هي أشباحها ولا كيف ومتى ستنفذ؟ يبقينا في فضائها المسحور فتتهيأ عضلاتنا للامتثال بانتظار أمر قصير لننفذ.
التشديد على كلمة (الأوحد) يزداد كلما زاد التحذير من المؤامرات الخارجية والداخلية وبالتحديد من الجمهورية العربية المتحدة. لم تثرني آنذاك كلمة (الأوحد) ولم أطرح، حتى ولو على نفسي، السؤال: لم هو أوحد؟ المستبد لم تكن صفة للحاكم في وعينا التموزي، السؤال هل هو عادل أم لا؟ الإعلام ينقل لنا صوراً عن زهد (الرجل الذي لا ينام)*، وقد عرفنا إنه اعتاد أن يزور خبازاً في الكاظمية في الفجر الباكر بانتظار أول رغيف حار لفطوره. ونعرف من الإعلام إنه ينام على فراش زاهد في غرفة بوزارة الدفاع وإن أخته تجلب له طعامه بالسفرطاس الى الوزارة فيتقاسمه مع مرافقيه.
كان الزعيم مسحوراً بوزارة الدفاع. هي مقره ومقر حكومته حين تجتمع، وفيها يتناول وجبات من طعامه وفيها يأخذ قيلولته وفي مقدمتها نصب منصة ليلقي منها خطاباته. مرةً كنا أمام هذه المنصة نصفق بدون أن نسمع حين التفتنا إلى شباك على يميننا، كانت واحدة من فتيات الميدان ترتدي ثوباً أحمر وهي تلوّح لنا نحن الثلاثة بالذات: تعالوا! تيهتنا الملعونة بين أن نستجيب لها أو لزعيمنا المحبوب؟
الرجل الذي لا ينام
سحرنا هذا الزهد و تولهنا بالرجل الأسطورة حتى صرنا نمد أيدينا بحماسة لكاتب عرائض، جنب بريد النجف، وجد مهنة أكثر ربحاً، هي أن يطبع صورة الزعيم على سواعدنا. أحببنا زهد الزعيم ونسينا تقلباته. حين تصاعد الخلاف بينه وبين عبد الناصر، وكلاهما دكتاتور وطني وزاهد. بدأ الطالب الشيوعي (زهير شكر) يخاطب عبد الناصر من منصة متوسطة الخورنق (يا سيادة الرئيس) معاتباً عبد الناصر بلهجة تهكمية وبأسئلة أكثر جزماً من الأجوبة:
-ما الذي يغيظك يا سيادة الرئيس؟ إنها جمهوريتنا وهو زعيمنا الأوحد!؟
بجانبي طالب قال وهو يهزّ يده استخفافاً:
-حتى الاتحاد الفدرالي بعد ما نريده.
مؤامرة!
شاركت في الحيوية السياسية بعد الثورة على حساب ولعي بكرة القدم. في بيتنا تجتمع هيئة طلابية يقودها ضياء العبايجي. المؤامرة وضرورات الحذر منها كانتا الموضوع الأساسي في النقاش. يرسم مسؤولنا بصوت خافت صورة المؤامرة بحيث يربط بين الأسطول السادس قريباً من سواحل لبنان، وبين تحركات سرية في سراديب النجف. ودائما ينتهي الاجتماع بكلمتين لهما معنى واحد:
-اليقظة والحذر!
وهي تحمل لنا صينية الشاي إلى غرفة الاجتماع وترى شحوب وجهي تسألني أمي بصوت جارح:
-هل ساءت الأمور؟
-…
نخرج من الاجتماع متوترين من إحساس بالخطر، منبث في كل أزقة المدينة، كأن المؤامرة تستهدفنا بالذات. الشكوك والخوف من غدر الآخر يتكفلان تحويل كل هواجسنا الى واقع محبوك يحدث الآن. في الليل نكوّن مجموعة من (حرس الجمهورية) ونقوم بدورية حول بيت عمي القيادي القومي الشيخ أحمد الجزائري. يتمادى واحد منا فيدق الباب بقبضته بقوة ويصرخ:
-مِؤامــــــــــــــــــــرة!
رأيت ذلك ولم اعترض وفي خيالي الأحاديث الهامسة بين القوميين في سرداب بيته، ولم يخطر ببالي أبداً الهلع الذي يمتلك أهل البيت وهم يتصورون مصير ابنهم المدلل الوحيد أحمد، ولا مخاوف والده الشيخ القابع في صومعته.
عام ١٩٦٠ كنت أسمع ذات يوم صوت عمي (أحمد الجزائري) في حديثه الأسبوعي من إذاعة (صوت العرب) في القاهرة عن الإرهاب في العراق والحملة الشيوعية ضد القوميين العرب. تحدث عن إعدامات بالجملة في شوارع الموصل وكركوك، من دون محاكمات، في الشارع وأمام أعين الناس، عن اغتصابات لنساء في السجون، عن سحل وتمثيل بالجثث. بدا لي يضغط أسنانه وهو يتكلم عن تفاصيل غاية في البشاعة. كنت محموماً أو هكذا ادعيت. جاء والدي بسرعة ودسّ المحرار في فمي ورفعه أمام الضوء ليرى خط الزئبق. لقد ارتفعت حرارتي قليلا، لكن ليس لحد الهذيان الذي اصطنعته. الصوت البعيد لعمي دخل في هذياني وسيل الصور الذي داهمني. هل ادعيت هذه الحمى أم إنها جزء من ارتباك الافكار الذي أصابني.لا أدري!
طريق السجن..
سجون قاسم غصّت بالمعتقلين من الطرفين. وبين جناح القوميين وجناح الشيوعيين في معتقل (خلف السدة) مسافة أمتار. مع ذلك لم تكن الحرية هاجس الطرفين. كل طرف يتتبع تحركات الآخر بترصد وتحفز، أيهما سينهض قبل الآخر ويكون الدكتاتور القادم أو شريك الدكتاتور الحالي. في طريقنا لمواجهة خالي سعيد نسير بين أسراب الجواميس مع عوائل قوميين أو بعثيين في قاووش مجاور. أنا وأمي نقطع طريقاً طينياً بين الصرائف المتباعدة خائفين من أسراب الجاموس التي تنظر إلينا بعيون رصاصية وحمر ونحن نتجاوزها بحذر شديد، ممسكيْن خلف ظهرينا صرر الطعام، وخائفين من عائلة أخرى ذاهبة في الطريق نفسه، احتمت بالجدار المقابل، خوفاً منا ومن الجاموس. تتبادل أمي معهن الألغاز لتعرف ما إذا كان أولادهن شيوعيين أو قوميين لتتبادلن الصداقة أو الكراهية. من بين حشد المعتقلين، أدباء، أطباء، مهندسون، صحفيون…، بالكاد نتعرف على خالي سعيد الصغير الحجم مثل والده. يقترب حذراً من الأسلاك الشائكة. نسأله عن سبب التشدد في المواجهات ولماذا ضوعفت الأسلاك الشائكة والحراسة؟ يخبرنا بهمس بعيد، بأن إدارة السجن اكتشفت أن أمهات البعثيين حاولن تهريب مسدسات داخل رؤوس الخس:
-إنهم يبيتون شيئاً، هل رأيتم مظاهراتهم في طريقكم؟
دهشنا من سعة معارفه عن الطرف الآخر، وهم في سجونهم. منه عرفنا أن نزلاء سجون قاسم، من الطرفين، مشغولون بأخبار بعضهم: من سيقفز إلى السلطة قبل الآخر؟
القوميون والبعثيون صاروا يتحركون بسرعة أكثر لأن هدفهم أقرب وأسهل من الشيوعيين: السلطة الآن! الشيوعيون كبلتهم الحتميات التاريخية (مرحلة التحرر الوطني) ومداراة مزاج الجماهير والتفافها حول قاسم، ومداراة حسابات الطبقات الحليفة وحرصهم على الجمهورية الوليدة وتفكيرهم بالأبعاد والتوازنات الدولية للتحرك. مكبلون بالرهان السوفياتي على عبد الناصر.. بهذه الحسابات عطلوا شهية تنظيمهم العسكري الذي كان يرى السلطة قريبة المنال لا تحتاج أكثر من لمسة كتف، وكان يلح على القيادة: نستطيع أن نفعلها (غدا فجرا!).
القوميون والبعثيون ينظرون للعالم والتاريخ باعتباره كومة من الصدف معزولة عن أسبابها. لماذا إذن لا يصنعون صدفتهم بسلسلة من المفاجآت والخدع وشحنات متسارعة من العنف. سيعطلون فعالية القوة الجوية باغتيال قائدها (جلال الأوقاتي) وهو لا يزال بالبيجاما في منزله. ويخدعون الجماهير الزاحفة لحماية قاسم عبر التظاهر بأنهم من أنصاره ويحملون فوق دباباتهم صوره، ويقطعون طريق خصومهم بإذاعة برقيات تأييد كاذبة… باختصار إرادتهم طليقة غير مقيدة بالتزامات أخلاقية داخلية ولا حتميات تاريخية.