اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > صورة المثقف في رواية بنات غائب طعمة فرمان

صورة المثقف في رواية بنات غائب طعمة فرمان

نشر في: 21 يوليو, 2024: 12:11 ص

حسن السلمان
ربما لم يعد وصف رواية ما بأنها رواية فانتازية شيئاً مهماً، أو يستحق الوقوف عنده طويلاً بعد أن سقطت الحدود الفاصلة مابين الفانتازي بغرائبيته ولامعقوله و"واقعه الافتراضي" الخيالي وبين الواقعي بحيزه المادي الملموس بروابطه الاجتماعية والثقافية والتاريخية لعدة أسباب واعتبارات، منها أن استخدام الفانتازيا لم يعد جديداً بعد أن تم استخدامه كأسلوب وشكل في كتابة الروايات والقصص منذ زمن بعيد حيث أصبح مع تقادم الزمن شيئاً اعتيادياً، ومن الأسباب الأخرى أن واقع بعض الشعوب التي تتعرض إلى هزات تاريخية عنيفة وانعطافات سياسية واجتماعية حادة، يتحول واقعها من صورته المعتادة إلى صورة تحمل الكثير مما هو غرائبي ولامعقول، كما أن الفانتازيا لم تعد مجرد حلية فنية للفت الانظار واستثارة الدهشة والاستغراب من خلال الاتيان بالغريب اللامألوف بقدر ما أصبحت أسلوباً لمضاعفة الدلالة وإدامة زخم العمل فنياً، وإبقاء المتلقي ضمن دائرة الاهتمام والمتابعة.
في روايته الموسومة بـ بنات غائب طعمة فرمان يستهل خضير فليح الزيدي روايته بمشهد فانتازي بامتياز حيث يعود الروائي العراقي المعروف غائب طعمة فرمان من عالم الأموات لحضور مجلس عزاءه وتشارك الكثير من شخصيات رواياته وعلى رأسها روايته الشهيرة النخلة والجيران لحضور مجلس العزاء مع بعض شخصيات الروايات العربية ومن ثم يتوارى العم غائب عن الأنظار لتبدأ عملية البحث عنه من قبل كاتب صعلوك ثوري النزعة، عبثي متمرد، يدعى هاني بارت بتكليف شخصي من سيدة برجوازية تدعى دلال البيرقدار المثقفة والعاشقة لغائب طعمة فرمان التي جاءت خصيصاً من مهجرها للبحث عن العم غائب وتسليمه مخطوطة رواية له لم يكملها تتحدث عن سيرة عائلة البيرقدار لكن جميع محاولات البحث عنه تبوء بالفشل فتسند دلال تحرير المخطوطة واكمال ماينقصها إلى هاني بارت لنكتشف في الأخير إن مجمل الحكاية مجرد ايهام وخداع سردي محكم الحبكة، وأن الرواية من صنيعة هاني بارت الذي من خلاله قدم لنا الزيدي صورة صريحة عن المثقف في تلك الفترة المحددة بأيام الاقتتال الطائفي بعد سقوط النظام وتحديداً في عام 2006، حيث تتجلى سلبية المثقف وتهافته وعدم التزامه وسقوطه الاخلاقي عبر انشغاله بأمور نخبويته ذات طابع فني بقيادته لجماعة تدعى (بيتنا ونلعب به) تتبنى افكار الحداثة وتدعو إلى تفجير اللغة وكسر قدسيتها ومركزيتها ونمطيتها مقابل (جماعة الرصيف) الكلاسيكية الداعية إلى الحفاظ إلى صفاء اللغة ومعجمها التراثي في وقت يحصد فيه الرصاص الطائفي والسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة ارواح الأبرياء إلى جانب القتل على الهوية والتهجير وهيمنة العصابات الاجرامية والمليشيات واستشراء الفساد بكل صوره وأشكاله في مفاصل الدولة. ولكي تكتمل الصورة المشوهة للمثقف، وبصورة تهكمية ساخرة يحشر الزيدي، مجموعة من الادباء المشهورين في المقهى البرازيلي كما لو أنهم مجموعة من المهرجين في خيمة سيرك حيث الجدل الصاخب بين مؤيدي الحداثة والتجديد والمحافظين الذي يصل إلى العراك بالأيدي بين الشاعرين الصعلوكين عبد الأمير الحصيري وحسين مردان ثم ينتقل الجمع إلى حانة الظلال لاستكمال النقاش تحت تأثير الخمرة لينتهي بشجار تتطاير فيه زجاجات الخمرة فوق الرؤوس ومن ثم الهروب…
أما على المستوى الاخلاقي والثبات على القيام والمبادئ والافكار التي كان يؤمن بها (جرذ الرصافة) الكاتب الثوري هاني بارت فأنها سرعان ماتتساقط أمام بريق دولارات قمر الرصافة السيدة دلال، حتى أنه يعد ما آمن به وحارب من اجله مجرد لهو وتزجية وقت سببه اليأس والحياة التعيسة والشعور القاتل بالفراغ والمصير المجهول في ظل اوضاع سياسية واجتماعية مروعة، إذ يوافق على كل ماتمليه عليه دلال من شروط ورغبات دون قيد أو شرط بعد أن امتلأ جيبه بالدولارات، ومعدته بالطعام الفاخر وقلبه بحب دلال الذي لم يستطع البوح به لها لشعوره بالنقص والدونية والتخاذل لتستمر لعبة الجرذ في المراوغة لكسب المزيد من المال بحجة عدم اكمال تحرير المخطوطة ويستمر استغفال دلال له التي لم يكن مساعها الحقيقي اللقاء بالعم غائب وتسليمه مخطوطته الروائية بقدر مان الصاق تهمة قتل شقيقتها لزوجها والاستحواذ على ميراث العائلة بلا شريك، لتستمر اللعبة ضمن مجال المتخيل الروائي الإطاري لفضح تهافت هاني بارت الكاتب المثقف وانتهازية البرجوازية ابنة البيرقدار.
جمالياً اتسمت لغة الرواية بالسلاسة والعذوبة وتباين المنطوق السردي على مستوى حوارات الشخصيات حسب وعيها ومنزلتها السردية، وانسجام مسار السرد العام مع مقاطع التناص وتعليقات الراوي مما منح الرواية سمة الامتاع والشد والتماسك، وعلى صعيد الفضاء الروائي فقد اتسم بالحميمة والدفء نتيجة لتأثيثه بالأمكنة المعلّمة من شوارع ومناطق وساحات ومقاه وحانات ونُصب التي تعود إلى (الماضي الجميل)، واستجلاب شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة من روايات غائب طعمة فرمان وفسح المجال لها بالمشاركة في سرد الأحداث وإبداء الرأي لكسر هيمنة وجهة نظر الراوي عبر رؤية ساخرة متهكمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram