اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

نشر في: 21 يوليو, 2024: 12:12 ص

د. نادية هناوي
إن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن سواها من أنماط القول وأشكاله التي هي في عالم الأدب غير محددة لسيولة تحولها وتنوعها بوصفها مادة أولية يمكن أن تملأ محتويات أي قالب كلامي من قوالب الأجناس الكبرى.
ومنذ الأزل والى اليوم والأدب يشهد ابتكار أشكال وأنماط وأنواع تحتويها الأجناس بحسب ما يحتمله قالبها النوعي وجميعها شعرية بالمعنى التجريدي للشعرية كنظرية في الفهم الأدبي وليس بمعنى الشعر الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه جنس لوحده يقابله النثر/ السرد، بل الأدب بشعره ونثره هو فن، ولا يمكن حصر الفن في قالب كما أن من غير المنطقي التكهن بما سيكون عليه أي فن نظرا لانتفاء طابع القالب عنه.
إن الجنس الأدبي كيان كتابي قائم بذاته تندرج فيه كينونات أولية هي عبارة عن متحصل ما يتم التجريب فيه والبرهنة على نوعيته كتابيا فتتعزز نوعية الجنس في حدود طاقته وما يتملكه من اكتفاء ذاتي ومنعة حدية هي بمثابة حتمية تطورية لا بد منها. مما ينطبق على قصيدة النثر التي ظهرت كشكل نثري احتواه قالب الشعر الغنائي ثم أخذ يتميز نوعيا لا كميا وبمرور الزمن استقر لوحده جنسا شعريا له قالب يتمايز عن أي قالب شعري آخر.
ولا شك في أن عملية التجنيس ضرورة تاريخية لا بد من التقيد بها وفيها يظهر الفرق في التراكم الكتابي بين ما يسفر عن تقاليد ترسخت بسببها القوالب وبين ما يكون مجرد فعل إبداعي ذاتي وكيفي لا يتخطى حدود زمانه ومكانه الآنيين. ومن هنا نفهم الصلة الوثيقة بين اسم هوميروس والشعر الملحمي وندرك صلة رامبو وجيرار دي نرفال وبودلير باستقلال قصيدة النثر لتكون جنسا من أجناس الشعر.
فاستقرار النوع الكتابي جنسا أدبيا ليس رهنا بناقد يكتشف ويؤشر على مواطن التفرد ويقعد القواعد، إنما الاستقرار رهن بمن يؤلف إبداعيا ويداوم شفاها أو مكاتبة على ممارسة هذا الإبداع لا سواه. وليس من فضل لأرسطو سوى أنه صنّف الأجناس الأدبية التي مرّ زمن طويل على الكتابة فيها؛ فمهمته إذن ليست اكتشافية أو كشفية وإنما هي تصنيفية. ومثله فعل منظرو قصيدة النثر التي كتبها بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه وهنري ميشو وسان جون بيرس وغيرهم. فلقد تتبع المنظرون تاريخ التجنيس الأدبي وصنفوا تقانات قصيدة النثر وأشكالها وأنماطها وعزوا الريادة في كتابتها إلى شعراء كانوا أوفياء لها وأعطوها أهم سمة تميز قالبها وهو التجانس.
ومن هؤلاء المنظرين فاليري لاربو الذي أعجب بهندسية شعر جون سان بيرس المسمى Anabase 1926 وعدّه أستاذ قصيدة النثر لما أضافه إليها من أصالة ولما فيه من غنى اللغة الشعرية مع استخدام متكرر للبيت الاسكندري والرسم الملحمي مما ينطبق على جميع أعمال بيرس جملة وتفصيلا ومنها ديوانه(Vents رياح) فشعره - كما تقول سوزان بيرنار- متلاحم وفيه يتماسك كل شيء ولا شيء فيه مجاني والقصيدة وحدة هندسة متناسقة تتناسب وتتوازن فيها الأطراف المختلفة.
ووجد غارودي أن بيرس أخذ من هيراقلطيس فكرة الهدم والبناء اللامتناهي بالرغبة في الانطلاق والشمول وأن شعره يعكس تفاؤلا نبوئيا أو لغة نبوئية نورانية عُرفت عند بعض الرومانتيكيين وشاعت بعد عام 1848 وفيها(الصورة المعكوسة لملحمة الإنسان عند هيجل: فهنا أيضا يعي العالم نفسه داخل الإنسان ويحل محل الآلهة القديمة بكل جرأة)
أما مرجعيات بيرس فاستقاها من كل المأثورات والأديان والطقوس والأساطير، وجمعها في سيرة بطولية عكست(الإيمان الإنساني الملحوظ في قصيدة "اليهودي التائه" لادجار كينيه والإحساس الملحمي بعظمة الإنسان الذي ألهم والت وتيمان أو فيرهارين.. أصول هذا الإيمان إلى التحالف الطويل المدى بين الإنسان والأشياء.. يشيع هذا الإحساس باستمرار في كل أعمال سان جون بيرس فكأنها من سبيكة واحدة أو قصيدة طويلة أو ملحمة فريدة للإنسان من خلال تجاربه وحضاراته أنها أسطورة العصر المناسبة لعهدنا الراهن لأنها تجعلنا نحس ونعيش تلاطم أمواج التاريخ وتدفع انطلاقتنا نحو الطموح ونحو النشوة بالحياة)
وهو أمر يمكن أن نشبهه بالنظام الاجتماعي الذي بقوة قوانينه يبقى مسيطرا على أية تفرعات داخله لكن ما أن يتمكن قانون ما من منافسة النظام حتى يفقد السيطرة على تلك القوانين فيكبر في محتوياته ويتمدد في نوعيته على حساب تميز النظام الاجتماعي وعندها يكون انفصال القانون عن النظام أمر حتميا. وأقول انفصالا وليس استبدالا؛ لأن من غير المنطقي أن يحل نظام محل نظام، ولأن الأساس في توازيهما هو توازن قوتهما معا، ومن ثم لا بد من انفصال أحدهما عن الآخر. وهذا ما يحصل في الجنس الأدبي الذي يطرأ على حدوده تغير جوهري ونوعي، يجعل الكمي الموجود داخله طاغيا. وبسبب هذا الطغيان يتنامى فيتمرد على حدوده الخارجية ممتلكا إطارا خاصا به.
وينطبق قانون احتواء النوعي للكمي واضحا تمام الوضوح كعملية فيزيقية ميكانيكية على الجنس الأدبي العابر، فالخصيصة النوعية يكون لها بسبب ما فيها من قوة وبناء أن توسع نطاق نواتها مما يجعل احتمال أن يكون كل عنصر داخلها متخما بشحن كمي من أشكال وأنماط وأنواع شتى. وكلما زاد عددها أدى ذلك إلى تزايد الشحن الذي بمرور أمد أو أمداء مناسبة يصل إلى بلوغ مرحلة معينة، ينفصل فيها المشحون المتراكم ويستقل لوحده مشكلا قوة أجناسية بإمكانها احتواء النوعي أيضا. وهو أمر لا يحصل دائما إلا إذا كان الجنس المعبور عليه يعاني من تقادم قالبه ومن ثم لا تعود نوعيته تفي بالغرض من ناحية القابلية على الضم والتجسير والسبك والاحتواء لما هو كمي.
وقد تحتمل الأجناس بنوعيها الشعرية والسردية مثل هذا الاستثناء، فالجنس المسرحي غير مؤهل لأن يكون جنسا عابرا بسبب كمية المتغيرات المستمرة بالتغلغل داخله فالحوارية كنوع سردي قد يفضي تراكمها إلى أن يفقد القالب سيطرته عليها فيغدو أمر عبور جنس الرواية على جنس المسرحية ممكنا، مخلخلا ومحللا ثوابت الكم الاحتوائي من جهة ومحتويا إياها نوعا في قالبه وبحدود ثابتة، وهو ما يؤدي إلى تضعضع حدود القالب الاجناسي للمسرحية ثم تدريجيا تتلاشى وقد صارت جزءا من الجنس العابر عليها. وقد تصبح الحوارية التي كانت ثغرة نوعية في قالب المسرحية نوعا سرديا وبوظيفة درامية داخل جنس الرواية.
ولقد اهتم علماء الأجناس الأدبية بدراسة التحولات النوعية الناجمة عن التغيرات الكمية في المواد لكنهم تعاملوا مع الأجناس بمقاييس محددة لا فضل فيها لجنس على آخر. وهو أمر غير ممكن عمليا فكما أن المواد العضوية تتنوع تبعا لما تتألف منه من ذرات فكذلك هناك مادة عضوية تنضغط في داخلها أكثر من مادة عضوية وتصبح مصطبغة بسمتها. وهو أمر لا يحصل إلا مع المواد التي تكون نوعيتها قابلة كميا لاحتواء ما هو محدد الماهية وله قالب خاص ومتفرد لكن ما أن تصبح الخصوصية والفرادة غير دالة على التميز بوجود سمة أخرى أقوى منها نوعية حتى تتغير الماهية وتغدو معبورا عليها أجناسيا.
فالعبور الأجناسي ببساطة هو ثبات المحددات النوعية في مقابل تراكم المتغيرات الكمية. والانتقال من الكم إلى النوع يعني أن تلك المحددات لم تعد فاعلة في إنتاج قالب ثابت ولا قادرة على أن تنمو وتتسع في تطورها الكمي بحيث يبقى قالبها النوعي ثابتا. مما نجده حاصلا في الحالة التي فيها يكون للمتغيرات الكمية أن تتطور فتزداد طاقاتها على خلخلة ثبات القالب الاجناسي فلا يكون بمقدور المحددات النوعية لهذا القالب أن تصمد بوجه تمدده. وعند ذاك يكون حتما وبدا للجنس العابر أن يحتوي ما هو مضَعضَع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram