ستار كاووش
ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع عشر، وهناك إخترتُ أريكة للإستراحة وتأمُّل بعض الأعمال بتأني وهدوء. لكن قبلَ أن أجلس جذبَ إنتباهي مجموعة كبيرة من التلاميذ الصغار، وهم يفترشون الأرض صحبة معلمتان، قريباً من بعض اللوحات، فيما تقف أمامهم مرشدة شابة متخصصة بالحديث عن لوحات المتاحف، لا تتوقف حركة يديها وهي تشرح لهم التقنيات والتفاصيل وتوضح بعض الضرورات التي جعلتْ الرسامين يستخدمون بعض الألوان الداكنة هنا أو المشرقة هناك، وهم يتناوبون برفع إيديهم لسؤالها عن هذه اللوحات وعن رساميها. هكذا ينهل الأطفال فن بلدانهم وتراثهم الجميل، أطفال لا ينشغلون فقط مع الكمبيوتر والتلفون الذكي، لكنهم يستطيعون أيضاً الحديث عن الانطباعية وعصر الباروك، معرفة ضوء رينوار وحيوية فان خوخ، هكذا يكبر هؤلاء الصغار دون حدود تفصلهم عن التاريخ الجميل لبلدهم الذي ولدوا فيه وتشبعوا بإبداعه. ولم يكتفِ المتحف بهذا الفعل وهذه الفسحة التي وفرها للصغار، بل هيأ لهم في ذات القاعة مساحة صغيرة للعب، وكأنها نسخة مصغرة من حديقة المدرسة التي يلعبون فيها كل ظهيرة، وبهذا يزرعون فيهم حب الفن بطريقة سهلة ومحببة، لا عنوة ولا قسراً. تُرى كيف سيكبر هؤلاء الصغار وهم يمضون نحو أيامهم القادمة في بلد يحب الفن بهذه الطريقة؟ لقد أعادني هؤلاء الصغار الى حالة رأيتها بمتحف تيت في لندن عند زيارتي معرض دافيد هوكني، هناك وسط لوحات هذا الرسام الرائع انتبهتُ الى رجل مع ولديه الصغيرين وهم يتجولون وسط المعرض، وفجأة توقف أصغر الصبيين أمام واحدة من لوحات هوكني، وقامَ بشكل عفوي بجعل أربعة من أصابع يديه بهيئة كادر قرَّبه من عينيه وظلَّ ينظر من خلاله الى اللوحة، يقتطع تفصيل هنا وآخر هناك، إبتسم الأب لطفلهِ فيما مازحه أخيه الأكبر ثم مضوا للتمتع ببقية اللوحات. أنا شخصياً عرفتُ هذه الحركة عند بداية دراستي في أكاديمية الفنون في بغداد، حيث تعلمنا النظر الى بعض الموديلات أو المناظر الطبيعية لإختيار الكادر أو التكوين المناسب، لكن أن يقوم طفل في الخامسة من عمرة بهذا الأمر وأمام لوحة دافيد هوكني، هنا فهمتُ لِمَ توجد عندهم كل هذه المتاحف، وكيف تكونت لديهم أجيالاً من الفنانين. الجمال هو توأم الحياة، حيث يمكننا رؤيته في تفاصيل صغيرة وعلينا تَعَلُّم إكتشافه منذ الصغر. وبمناسبة الحديث عن الطفولة، فقد شَرَّعَتْ هولندا في الفترة الأخيرة قانوناً جديداً أُضيفَ لدستور البلد، وهذا القانون يقضي بأن يزور كل طلاب المدارس الابتدائية في هولندا متحف رايكس الذي يُعتبر أعظم متاحف البلد التي وصل عددها الى ثمانمئة متحف، كي يشاهد الأطفال بعمرٍ مبكر لوحات ريمبرانت وأستاذة الفن الهولندي، نعم على التلاميذ الصغار التشبع بالفن ومشاهدة لوحة الحراسة الليلية التي تعتبر أعظم لوحة كلاسيكية في العالم. والطريف في الامر، أن من لا يقوم بذلك تحصل مدرسته وذويه على التنبيه، وقد يصل الأمر لإعتباره غير متجاوزاً السنة الدراسية التي هو فيها. هذا دستور في بلد يعطي للجمال مكانته وللابداع أهميته.
مازلتُ جالساً على الأريكة ذاتها، لكني إستدرتُ الى جهتها الأخرى مُغيراً إتجاه جلوسي، فأشرقت بوجهي لوحة (الهولندية) للفنانة الفرنسية جاكلين كوميري باتون (1859-1955) التي تُعتبر برأيي من أهم فناني نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وهي تتمتع بحساسية مذهلة في معالجة اللون والتوصل الى ملمس التفاصيل، لكنها لم تحصل مع الأسف على ما تستحقه من شهرة مقارنة بما حصل عليه الرجال من أبناء جيلها، مع ذلك لم تهتم هذه الرسامة كثيراً لهذا الأمر، ومضت تصنع لوحات تقترب من السحر. في هذه اللوحة رسمتْ جاكلين فتاة هولندية بزيها التقليدي في القرن التاسع عشر، تظهر الفتاة بكامل أناقتها وحليها متطلعة لعين المشاهد، أي عين الرسام ذاته، تُغطي رأسها بقبعة مطرزة بالذهب، تنتهي بحلي ذهبية تتدلى على الجانبين، وتلف على كتفيها شالاً أخضر مطرزاً بزهور حمر ويتوسطه بروش ذهبي، فيما تبرز قلادتها الحمراء لتوازن المشهد وتثبته وسط تاريخ الرسم الى الأبد. يبدو من خلال الكتاب الذي تمسكه الفتاة بإحدى يديها وتضع أحد اصابعها بين دفتيه وكإنها كانت منشغلة بالقراءة قبلَ لحظات قليلة، فيما تمسك يدها الأخرى غصناً مليئاً بالأوراق الخضر الطرية. ووسط كل ذلك ينبثق وجهها مضيئاً مثل الشمس، وملامحها مشعة حيث تهبط قطعة قماش بيضاء شفافة ومليئة بالزخارف من فوق رأسها وتلامس كتفيها، لتمنح المشهد حيوية نادرة. يتضح من كل التفاصيل والذهب ونوع الملابس والكتاب أن الفتاة تنتمي لعائلة غنية من عوائل هولندا في القرن التاسع عشر. تركتُ الفتاة الهولندية خلفي، وألقيت نظرة على الـصغار المنشغلين بتفاصيل اللوحات، ومضيتُ الى مقهى المتحف وإخترت طاولة هادئة بعد أن طلبتُ قهوة وقطعة من الكعك.