اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الذكاء الاصطناعي يهدد الذكاء البشري

الذكاء الاصطناعي يهدد الذكاء البشري

نشر في: 24 يوليو, 2024: 12:31 ص

سايمون ونتشستر*
ترجمة: لطفية الدليمي
إختراعُ اول حاسبة جعلنا نتوقف عن إستخدام جزء من عقولنا
يعتبر المؤرّخون المعاصرون سنة 1967 سنة مميّزة مثقلة بالوقائع المفصلية: حرب الايام الستة، صيف الحب (إشارة إلى الثورة الشبابية التي عمّت أوربا، المترجمة)، إطلاق الالبوم الغنائي الشهير المسمّى Sgt Pepper لفرقة البيتلز الغنائية البريطانية ذائعة الصيت حينذاك، تسجيل الميتات الاولى لروّاد الفضاء الامريكيين خلال المراحل التجريبية للإعداد للرحلة المزمعة لأبولو إلى القمر، الاعلان عن اليوتوبيا شبه الحضرية في منطقة ملتون كينز Milton Keynes الواقعة على مسافة خمسين كيلومتراً إلى الشمال الغربي من لندن. في خضمّ هذه الوقائع الاستثنائية حصلت واقعة أخرى تكاد تكون شبه منسية اليوم رغم أنها قد تكون -ربما- الواقعة الاكثر أهمية بين كل الوقائع: إختراعُ الجهاز الاول الذي سمح لنا بالتوقّف عن إستخدام جزء من عقولنا.
مهندسٌ شاب من مدينة دالاس، إسمه جيري ميريمان Jerry Merryman، منَحَنا هو وفريقه العامل في شركة Texas Instruments الحاسبة اليدوية الأولى التي تطوّرت لاحقاً إلى حواسيب متقدّمة. صار بمقدورنا لقاء 400 دولار أمريكي حيازة واحدة من هذه الحاسبات الصغيرة -التي بحجم جيب البنطال-، وهي ليست سوى صندوق بلاستيكي صغير توجد على سطحه أزرار ورموزٌ يمكن لنا عند الضغط عليها تقديمُ جواب لحظي بدقّة فائقة لأيّ سؤال حسابي يخطر ببالنا.
الاكثر أهمية من هذا هو أنّ هذه الآلة الاحتسابية كانت تؤدّي أعمالها بطريقة غير مرئية لنا. ربما كان المعداد The Abacus والمسطرة المنزلقة Slide Rule أدوات ساهمت من قبلُ في إختصار الكثير من الجهد العقلي لنا؛ لكنّها برغم هذا كانت تتطلبُ منّا بعض الجهد العقلي. حاسبة شركة تكساس انسترومنتس الجديدة أزاحت عنّا العبء العقلي الاحتسابي بالكامل، وجعلت هذا الجهد شيئاً من ذكريات الماضي البعيد. أشباه الموصلات Semiconductors والخوارزميات Algorithms هما اللذان ساعدا ميريمان في تحقيق سحره مجسّداً في هذه الآلة الحسابية الصغيرة، ثمّ تواصلت الانجازات الساحرة وتعمّقت وتطوّرت كثيراً على يد مهندسين آخرين إمتلكوا مثل براعة ميريمان وقدرته، وعملوا بلا هوادة على تحويل الافكار إلى مصنّعات مرئية باهرة.
ربما تكون مواهب ميريمان وطموحاته هو ونظراؤه هي ما تطلّعنا إليه بحرارة عبر سنوات بعيدة. تستطيع عقولنا الآن أن تنعم بإسترخاء غير مسبوق. تبدو المقارنة في هذا الشأن غير ممكنة وخاسرة منذ البدء. لنتصوّرْ مثلاً حجم الجهد العصبي الذي ستبذله خلايا أدمغتنا عندما نريد قراءة خريطة وتحديد مواقع محدّدة عليها مستعينين بالبوصلات وأجهزة تحديد المسافات الدقيقة (الكرونوميترات). اليوم صار بمستطاع نظام تحديد المواقع GPS تزويدُنا بكلّ الاتجاهات التي نحتاجها وتحديد موقعنا بأعظم دقّة متصوّرة. مثالٌ ثانٍ: لو كنّا غير واثقين من كيفية لفظ كلمة أو الطريقة الفضلى في إنشاء جملة فمنذ عام 1980 ومابعده لم يعُدْ لنا حاجة ملحّة آنية ضاغطة ترغمنا على الاستعانة بقاموس أكسفورد للإنكليزية OED أو الاستعانة بنسخة من كتاب فاولر لإستخدامات المفردات الانكليزية الحديثة. صار بمستطاع برنامج جهاز حاسوب كومودور المسمّى WordCheck ونسخه اللاحقة الاكثر حداثة إنجازُ كلّ هذه الاعمال بدقة وسرعة وكفاءة تفوقنا بكثير.
في نيسان (أبريل) عام 1998 قدّم إثنان (أصبحا اليوم إثنين من أكابر أثرياء العالم) ورقة بحثية في مؤتمر علمي عُقِد في مدينة بريسبان الاسترالية، وتناول بحثهما فكرة تطوير أوّل محرّك بحث في العالم.. هذان الامريكيان الشابان هما لاري بيج Larry Page و سيرغي برين Sergey Brin اللذان بفضل جهودهما صار لدينا اليوم محرّك البحث الاكبر في العالم، غوغل Google، الذي ظلّ قادراً خلال الربع قرن الماضي على توفير إجابة خلال أجزاء بسيطة من الثانية لأيّ سؤال نشاء عن أيّ شيء. شركة OpenAI تعدُنا بما هو أبعد من حدود ما قدّمه لنا غوغل: إنها تقدّمُ لنا إبتداعات جديدة أكثر تطوّراً من شأنها نسفُ كلّ الجهد الضئيل المتبقي على عاتق عقولنا. قادت هذه الحقيقة خلال الأشهر القليلة الماضية إلى قرع جرس إنذار مبكّر. صار يشاعُ في أوساط واسعة أنّ عقولنا ستنتهي لا محالة إلى حالة من الكسل والبلادة بسبب عدم الاستخدام المتقادم، وسينشأ عن هذا الامر إضمحلال خطير في قدراتنا العقلية مع كلّ ما يترافق معه من إضطرابات مؤذية على المستويين الفردي والمجتمعي.
النموذج الكابوسي لما قد يحصل لأجسادنا قد يتماثلُ مع الفلم السينمائي Wall-E الذي قدّم عام 2008 رؤية ديستوبية غادر فيها البشر عالمهم المختنق بالتلوّث والفضلات وفضّلوا العيش في شرانق تدور في مدارات أرضية، وهذه الشرانق مكيّفة لتكون صالحة للعيش البشري. يصوّرُ لنا الفلم البشر في هذه الشرانق وهم أقربُ لكائنات رخوة ضامرة العضلات، لا تفعل شيئاً سوى الاسترخاء على كراسٍ ممدودة، وتتغذّى على شبه عصيدة -ذات محتوى عالٍ من السعرات الحرارية- من عبوات مضغوطة، وتحدّقُ بعيون زجاجية باهتة في الشاشات الموضوعة أمامها. يمكن أن يكون مستقبلُنا البشري نسخة شبيهة في الفظاعة من رؤية فلم Wall-E: عندما تتكفلُ الآلات بعمل كل شيء وأي شيء فلن يكون أمام عقولنا ثمّة جهد عقلي لتغعله؛ الامر الذي سيدفع عقولنا لأن تصبح وسطاً ينعدم فيه التفكير بكلّ ما تعنيه هذه العبارة من محتوى حرْفي. لن نصبح بشراً يفكّرون، وستنتهي عقولنا في حالة من الكسل والخدر أقرب إلى حلم يقظة ممتدّ ليست له نهاية، وسنعيشُ حالة خواء روحي مريعة. عندما تتلاشى معرفتنا الذاتية بعد أن تصبح كلّ المعرفة متاحة لنا بوسائل ميسّرة وبسيطة فإنّ مفهوم الحكمة البشرية سيتبخّرُ هو الآخر لأنّ الحكمة في النهاية ليست سوى إجتماع تفاعلي للمعرفة مع خبرة الحياة اليومية. يمكننا القولُ باختصار أنّ المجتمع حينذاك سيتشظّى ويضمحلّ شيئاً فشيئاً على المستويات الثلاثة: الجسد،العقل،الروح.
هذه واحدة، وواحدة فقط، من الرؤى القيامية المنذرة بمصير كئيب للجنس البشري. أنا لستُ من أتباع هذه الرؤية الديستوبية القاتمة على الاقل بقدر ما يختصّ الامر بمستقبل عقولنا. أراني أتقاطع بقوّة مع من يقولُ أنّنا ماضون إلى جحيم فكري شامل وخواء عقلي لا يُردُّ. أرى الامر على العكس من هذا تماماً، وأعتقد بوجود أكثر من سبب لتفاؤل يبدو ضئيلاً اليوم لكنّه يمكن أن ينمو ويزدهر. أستمدُّ مصادر أملي المتفائل من بضعة شخوص من قدماء الاغريق الذين رسّخوا ركائز أساسات المعرفة،وقبل هذا قدّموا لنا تعريفاً متيناً لفكرة المعرفة ذاتها: فيثاغورس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، هيرودوتس، إقليدس. هذه الشخوص - التي لم تزل تحوز إحتراماً وتبجيلاً يتزايدان مع الزمن- كانت لها عقول مفكّرة لا تكاد تختلف في قدراتها عن أفضل العقول العلمية في زماننا هذا إلا في خصيصة واحدة لا مفرّ منها وهي أنّ عقول الاقدمين الذين عاشوا قبل قرون خلت أتيح لها القليل من المعرفة بسبب محدودية المعرفة آنذاك، وربما لو أتيحت لها المعرفة الحالية لقدّمت إنجازات أعظم بكثير ممّا فعلت.
قدّم فيلسوف العلم كارل بوبر Karl Popper عبارة صارت لاحقاً واحدة من أكثر العبارات التي يجري إقتباسها في الاحاديث العامة: "المعرفة محدودة لكنّما الجهل غير محدود". تبدو عبارة بوبر بالطبع صائبة من الوجهة الموضوعية على الرغم من أنّ كمية المعرفة المتاحة امام عقولنا اليوم أعظم بكثير وإلى حدود غير قابلة للمقارنة مع المعرفة التي أتيحت للنخبة الفكرية المتميزة في عصور كلاسيكية خلت. لو شئنا المقارنة كتجربة فكرية نتعلّم منها فسنرى أنّ هؤلاء المفكرين الستة السابق ذكرهم - مع نظراء لهم أيضاً- قلّما سافروا خارج حدود إقامتهم (أرسطو كان إستثناء من هذا)، وعاشوا أغلب حياتهم داخل فقاعة عرِف فيها القليل من التفاصيل الجغرافية، والقليل جداً من التاريخ السابق، والقليل جداً كذلك من التفاصيل الخاصة بالعالم الطبيعي الذي كانوا يشاهدونه ويلمسون تأثيراته الكبيرة في حيواتهم؛ لكنّ عقولهم مع أنها كانت غارقة في مجمل المعرفة المعاصرة لهم (إشارة إلى موسوعيتهم في حقول عديدة من المعرفة، المترجمة) غير أنها كانت أقرب إلى صفحات بيضاء tabula rasae، فارغة تقريباً، جاهزة دوماً لأن تنغمس بشغف في أي بحث أو إستكشاف معرفي، وهي حاضرة دوماً لأن تفكّر في أي شيء وكلّ شيء من غير وهن أو كسل أو بلادة. كانت لتلك العقول غاية موجّهة نحو حب المعرفة ولم يكن أي شيء ليعيق ذلك الحب الطاغي. ربما يمكن لكلّ منا أن يصبح نظيراً لهؤلاء المفكّرين العظام بعد أن تعمل الخوارزميات الحاسوبية على تطهير عقولنا من كلّ المعرفة غير الضرورية التي نرهقُ بها عقولنا، وحينها فقط يمكن لعقولنا أن تصبح مثل عقل أعاظم المفكّرين الاغريق في القدرة على التفكير، والبحث، والاندهاش، والتأمّل، والتخيّل، والخلق، وابتداع الافكار ومساءلتها وتطويرها.
تأسيساً على ما سبق من محاججة فإنّي أرى الثورة الخوارزمية المعاصرة كحملة تطهير ضرورية تمكّنُنا من إزاحة عبء الاحمال الثقيلة المتراكمة للحياة الفكرية المعاصرة عن أكتافنا وبكيفية تجعلنا نستعيد براءتنا العقلية الاولى التي تلوّثت كثيراً وشابتها الكثير من المعوّقات التي لطالما ثلمت قدرتنا العقلية وشلّتها عن الفعل القصدي الموجّه بقوة وثبات وشجاعة.
المجتمع الجديد، مجتمع مابعد الذكاء الاصطناعي Post-AI Society، قد يشهد نشوء إقليدس جديد، أو أفلاطون جديد، أو هيرودوتس جديد. قد تبدو هذه الفكرة خيالية؛ لكنّ الشخوص الجديدة نظراء إقليدس وأفلاطون وهيرودوتس ربما ينتظرون فقط الاجنحة التي ستمكّنهم من التحليق عالياً وكأنهم ينبعثون من رماد أجساد المفكّرين السابقين.
لو كانت إمكانية خلق نظراء جدد للمفكرين الاغريق السابقين هي الفائدة الحقيقية الممكنة لتطهير عقولنا من العمل الروتيني الرتيب الذي يمكن بسهولة تركه للحواسيب والروبوتات فسأكون في غاية التوق انتظاراً لتحقيق تلك الامكانية المجيدة.

  • سايمون وينتشستر r: كاتب وصحفي ومؤرّخ بريطاني ولد عام 1944 في لندن. يقيم حالياً في ولاية ماساتشوستس الامريكية بعد ان حصل على الجنسية الامريكية. ألّف كتباً مهمة عديدة آخرها الكتاب المنشور عام 2023 بعنوان:
    Knowing What We Know: The Transmission of Knowledge From Ancient Wisdom to Modern Magic
    (الموضوع اعلاه منشور في صحيفة الغارديان بتاريخ 19 حزيران 2023)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الذكاء الاصطناعي يهدد الذكاء البشري

سؤال وجهناه إلى عدد من الشعراء والنقاد : الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

ماس القصائد: مختارات شعرية استعاديّة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي يهدد الذكاء البشري
عام

الذكاء الاصطناعي يهدد الذكاء البشري

سايمون ونتشستر*ترجمة: لطفية الدليميإختراعُ اول حاسبة جعلنا نتوقف عن إستخدام جزء من عقولنايعتبر المؤرّخون المعاصرون سنة 1967 سنة مميّزة مثقلة بالوقائع المفصلية: حرب الايام الستة، صيف الحب (إشارة إلى الثورة الشبابية التي عمّت أوربا،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram