اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > قراءة في رواية (اكتشاف البطء)

قراءة في رواية (اكتشاف البطء)

نشر في: 31 يوليو, 2024: 12:01 ص

رنيم العامري
البعثة الاستكشافية:
في صبيحة التاسع عشر من مايو عام 1845، وتحت قيادة السير (جون فرانكلين)، انطلقت من إنجلترا السفينتان (إريبوس) و(تيرور) بطاقمين من 128 رجلاً، في رحلة لاستكشاف القطب الشمالي بهدف إكمال الخريطة الملاحية إلى الممر الشمالي الغربي. سيكون هذا الممر -إذا ما عُثر عليه- طريقاً سهلاً إلى آسيا، وسيُشكّل منفذاً تجارياً مهمّاً للدولة التي تعثر عليه أولاً، لذا كان السباق محموماً بين الهولنديين والفرنسيين والبريطانيين.
كانت السفينتان المصفحتان بالنحاس، تنوءان بحمولة ثقيلة من كل ما يمكن حمله: مؤونة من طعام وشراب بأنواعه (لحم مجفف وطعام محفوظ وما شابه) والآلاف من الكتب وآلات موسيقية وكل الأدوات التي تلزم لشقّ طريق في الجليد، بالإضافة إلى قرد وكلب وقطة وحمام زاجل، مع وقود للمحركات البخارية، إذ كانت كل سفينة مزودة بمحرك يعمل بقوة البخار كالذي يستخدم في القطارات البخارية.
في نهاية يوليو من نفس العام، شاهدت الحوّاتة (انتربرايز) -سفينة لصيد الحيتان- السفينتين (إريبوس) و(تيرور) لآخر مرة قبل أن يهطل الثلج وتختفيا عن الأنظار للمرة الأخيرة.
القبطان الأبطأ من الموت:
لم يوجد في نواحي إنجلترا طفل أبطأ من (جون فرانكلين)، فبينما يلعب أقرانه بالكرة، يقف ساكناً مثل صليب على مقبرة، مستقيم القامة كنصب تذكاري أو فزاعة طيور. قال الناس عنه إنه يشبه ساعة البرج العنيدة ذات العقرب الوحيد الذي تتوجب زحزحته ثلاث مرات في اليوم. كان يسدّد نظرته الشاملة في كل شيء بثبات يستمر لساعات، كأن عينيه تتربصان الحركة التي تفوت العين البشرية لأنها تعتبرها شديدة البطء، فيرى في النهار ظلال شواهد القبور تنهض وتميل إلى الخلف أو إلى الجانب مع أشعة الشمس، وفي الليل، يراقب نقوش الأحرف عليها وهي تجمع الندى في شقوقها. كان يرى رقص السحاب عندما تسكن الريح، وتحوّلَ ظِلّ البرج من الغرب الى الشرق، والتفاتة الزهور نحو الشمس. وجد في الكتب سلواه، لأنها تستطيع الانتظار ولا تعرف الإلحاح، ووجد في القصص حججاً سليمة لمواجهة الإجراءات المتعجلة. كره إخوتُه -نافدو الصبر دوماً- أن يكونوا إخوة له، وإذا ما عاد إلى البيت صاح والده: "ها هو الأحمق قد أتى!". قال الناس إنه ورث البطء عن أمه التي حملت لقب (أبطأ أمّ في الدنيا). كما أنه لم يكن يغضب قط، وإذا حاول أحد الأولاد استفزازه لا يهرب ولا يفزع، ولا يوجّه لكمة في عراك ولو كلّفه ذلك أحد أسنانه، مكتفياً بتحريك ذراعيه وكأنه يهشّ خصمه ليُبعده. لم تُخِفه الوجوه المتجهمة، ولم يفهم لماذا تبدو وجوه البشر هكذا عندما يغضبون: بأنياب مكشرة، وأنفاس لاهثة، ومناخير متوسّعة، وعيون ترمش بسرعة، وأصوات ترتفع فوق أصوات الآخرين. أدرك منذ صغره أن هذه القرية ليست مكانه وأن الكل فيها خصومه، لذا وجب عليه الذهاب إلى مكان فيه من يشبهونه، أو من لا ينظرون إليه على أنه بطيء، وربما سيتعلّم السرعة التي يفتقر إليها هناك.
في محاولته الأولى للهرب من المنزل، التي استمرت لستّ وثلاثين ساعة فقط قبل أن تبوء بالفشل، قطع سيراً مسافة طويلة بعيداً عن قريته، اجتاز جداول وأسواراً، آلمته قدماه وشعر بالجوع وتيبّس حلقه من العطش، وعندما غربت الشمس وجد ضالته أخيراً، كان البحر الرماديّ الملفوف بالضباب منبسطاً على مدّ النظر، ممتداً إلى ما لا نهاية، فرأى فيه الصديق والمكان المنشود. آنذاك اتخذ قراره، لم يعُد يريد أن يصبح سريعاً، وصمّم على أن يصبح بطيئاً، بل وأبطأ حتى من الموت. وإذن إلى البحر!
فضيلة البطء:
كان جون أقوى من الآخرين لأنه ببساطة يتحمل نفاد صبرهم. في طفولته، عندما كان طفلاً يلعب في الغابات مع الأولاد الذين اكتسبوا بفضل سرعتهم مكانتهم كملوك فناء المدرسة الصغار، وحده جون راقب الطريق وتعقب التغييرات البطيئة، من ميل الأرض ووضع الشمس، فرسم علامات لتدلّهم على سبيل العودة. وعندما ضلّوا الطريق خلال اللعب والتجوال، لم يرغبوا بالاستعانة بمساعدته ولا علاماته، بالعناد الذي يتّسم به الصغار، ولولا راعي الغنم الذي وجدهم صدفة لقضوا ليلتهم تلك في العراء.
وعندما أصبح شاباً، كان إذا ركب سفينة ولم يلقَ الاحترام بسبب بطئه في البداية، لم يفقد تفاؤله. لأنه عرف أن وضعه سيتغير بقليل من الصبر الذي يملك منه الكثير. وبما أنه يحفظ كل شيء عن ظهر قلب، فقد صار رأسه أشبه بمخزن ممتلئ، كان يعرف أكثر من الجميع، ورغم غضبهم منه لهذا السبب إلا أنهم يأتونه طلباً للمشورة. وفي بضعة شهور يقابله الجميع باحترام، ويعطونه الوقت الكافي للإجابة عندما يسألونه عن رأيه. كما أنه مستمع جيد، بل ومثالي، فهو يستمع حتى إلى ما لا يريد أحد غيره سماعه ويظل محافظاً على فضوله، ويكثر السؤال إذا لم يفهم، حتى عرف أصدقاءه أنه إذا فهم شيئاً، فلا بدّ أن يكون صحيحاً.
وفي سلاح البحرية، عندما يستولي القلق على الجميع أو يصيبهم الجمود، هنا يتميز جون، فبمقدوره أن يتجاهل الأحداث والأصوات السريعة في خضم المعارك ليهتمّ بالتغيرات التي لا يكاد يلاحظها أحد آخر بسبب بطئها. فبالنسبة إليه ثمة ثلاثة توقيتات: توقيت في أوانه، وتوقيت بعد الأوان، وتوقيت قبل الأوان.
رحلة سعيدة:
بعد انقضاء سنتين لم ترِد فيهما أية أخبار عن البعثة الاستكشافية تحت قيادة فرانكلين، أرسلت البحرية البريطانية عدة سفن إلى القطب الشمالي، ولم يُعثر على أي دليل عن مصير البحارة إلا في خمسينيات القرن التاسع عشر.
ما زال الغموض يلفّ البعثة حتى بعد مضيّ أكثر من قرن، وهناك تقارير ودراسات ووثائقيات مصوّرة منتشرة في الانترنت لمن يرغب في الاستزادة، يمكن من كل ذلك أن نقول التالي: عندما قضى مرض الاسقربوط على أول ضحاياه، ظلت معنويات الرجال عالية، لأن القبطان فرانكلين رغم مرضه ظل يقيم القداس ويخفّف عن رجاله بالضحك والمزاح، لأنه ببساطة لم يفقد الأمل، حتى بدا وكأن فقدان الأمل أمر ليس باستطاعته إطلاقاً. لم يكن بوسع شيء دفع جون إلى حافة اليأس، فهو يبتسم حتى لو لم يشعر ببهجة حقيقية.
لكن المرض اشتدّ عليه فلم يعد يستطيع الحركة أو الأكل دون عون، حتى فقد القدرة على الكتابة أو الكلام. وفي 11 يونيو 1847 توفي السير جون فرانكلين، نائب الأدميرال في البحرية الملكية وكان عمره 62 عاماً. حفر الرجال فتحة في طبقة الجليد لتكون بمثابة قبر، تجمّع الطاقم، رُفعت القبعات، وتُليت الصلوات، ودوّت طلقات المدافع، ثم أُنزل التابوت الذي يضم جثمانه في قبره الجليدي، وآخر ما قيل له هو "رحلة سعيدة".
ظهرت رواية (اكتشاف البطء) عام 1983، للمؤلف الألماني (ستِن نادولني)، وصدرت بالعربية في 2022 عن دار (أطلس) بترجمة (سمير جريس)، الذي لم يألُ جهداً لنقل النص من الألمانية إلى العربية بأحسن وجه. هذه رواية عن سيرة (جون فرانكلين) ولكنها مكتوبة لتمجّد البطء، وتقدّمه كفضيلة يُحقق من يتحلّى بها انتصارات لا تراها عين الرائي العجول.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كفاح الأمين: أصبحت الكاميرا رديف كفاحي اليومي أثناء المقاومة الأنصارية

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

نازك الملائكة والمشروع الإصلاحي

قراءة في رواية (اكتشاف البطء)

من المطابقة إلى أفق الإمكان

مقالات ذات صلة

نظرةٌ نُظُميّة إلى الحياة
عام

نظرةٌ نُظُميّة إلى الحياة

لطفية الدليميعندما عثرت على نسخة ألكترونية من كتاب (الطاوية والفيزياء الحديثة) لم أتأخّرْ في قراءته. أضاف العنوان الثانوي للكتاب (استكشافُ التماثلات بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية) حافزا اضافيا لقراءة الكتاب. اعتبرت الكتابُ هدية كبيرة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram