لطفية الدليمي
في تفحص الرؤى الفكرية المتناقضة عن الرأسمالية، دعونا أولا أن نبتعدْ عن الحروب الآيديولوجية السائدة ولنقصرْ حديثنا على الفضاء الثقافي والمثقفين Intellectuals.وعلاقتهم بالرأسمالية لم يكن المثقفون بعيدين عن الحفر العميق في جوهر الرأسمالية ومتبنياتها الفكرية وإسقاطاتها الحادة على طبيعة المعيش اليومي للبشر. (المثقفون) متباينون في رؤاهم تبايناً كبيراً ينعكس في القطبية المتنافرة لما يكتبونه بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهذا أمرٌ متوقّعٌ من المثقفين. الناسُ في العادة تحاكمُ الانساق الفكرية بمقدار إنعكاسها المباشر في تحسّن حياتها اليومية؛ لكنّ المثقفين يُظهِرون عنتاً في القبول الميسّر بالافكار بل يميلون في العادة لمساءلة الانساق والحفر العميق فيها بعيداً عن السطوح التي تكمن فيها المنافع الميسّرة سريعة المنال.
وقد قرأنا وسنقرأ الكثير مما كتبه بعضهم عن موت الرأسمالية مثلما ماتت الاشتراكية السوفييتية قبلها. المسوّغات متعدّدة والخلفيات الفكرية متباينة: هناك بين الكتّاب مَنْ يبشّرُ بهذا الموت الوشيك تناغماً مع رؤية رغبوية انتقامية لما حصل مع التجربة الاشتراكية العالمية، وهناك من يعتمد رؤية الحتمية التاريخية Historical Inevitability التي جوهرُها أنّ أيّ نسق فكري لا بدّ أن ينتهي إلى زوال لتبدأ من نقطة الزوال إنطلاقة جديدة لنسق جديد. إنها نسخة آيديولوجية محدّثة من الديالكتيك الهيغلي الممتد من القرن التاسع عشر.
المثقف والرأسمالية علاقة ملتبسة
الكتبُ هي البضاعة الاهم للمثقفين. هناك المنشورات والافلام السينمائية والبحوث والدراسات والفن والتشكيل؛ لكن تبقى الكتب المستودعات الاهم والاكثر تداولاً للأنساق الفكرية. تعكس المنشورات الحديثة من الكتب رؤى متباينة نحو الرأسمالية من جانب مثقفين من شتى الالوان الفكرية والفضاءات المعرفية. سأذكر عيّنات فحسب من الكتب التي إطّلعتُ على بعض تفاصيلها. هناك أولاً كتاب قوة الرأسمالية The Power of Capitalism للمؤرخ والسوسيولوجي الالماني راينر زيتلمان Rainer Zitelmann. من المثير معاينةُ العنوان الثانوي في الكتاب: الرأسمالية هي الحل وليست المشكلة!!. ربما سيقودنا العنوان الثانوي إلى توقّع نمط من القناعة المدفوعة بضغط آيديولوجي للرأسمالية في فكر المؤلف ورؤيته، وسيتعزّز هذا الرأي لو علمنا أنّ الكتاب المذكور أعلاه نُشر عام 2024 بعد سنة واحدة من نشر كتاب سابق له بعنوان دفاعاً عن الرأسمالية In Defense of Capitalism. هذا في الجانب المناصر للرأسمالية؛ أما في الجانب المناهض لها (والراغب في موتها ربما) فهناك كتاب مثير منشور حديثاً ايضا في 2024 عنوانه رأسمالية النسور Vulture Capitalism لمؤلفته غريس بلاكلي Grace Blakeley. تصمُ المؤلفة الرأسمالية (كما ينبؤنا عنوان الكتاب) بسلسلة لا تنتهي من الشرور والجرائم بل وحتى نهاية الحرية الحقيقية للانسان، وهذا ما يلمحه القارئ من العنوان الثانوي للكتاب أيضاً. لعلّ القارئ سيخمّنُ أنّ الكاتبة ذات توجهات يسارية أصولية عنيفة حدّ أنها تنتمي لسلالة أحد مؤسسي الشيوعية السوفييتية. أبداً. ليس الامر على هذا النحو. بلاكلي خريجة جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وكانت الاولى على دفعتها في التخصص الثلاثي الشهير بجامعة أكسفورد المسمّى PPE (الفلسفة،السياسة، الاقتصاد). القضية ليست آيديولوجيا خالصة أو تصفية حسابات تأخرت وحان أوان تسديد فواتيرها المتراكمة. المثقفون لهم مواقف متباينة تجاه الرأسمالية؛ فهم يحبونها أو يكرهونها وليس ثمة من موقف موحّد لهم إزاءها.
قبل تناول موضوعة علاقة المثقفين بالرأسمالية، من المهم تشخيص أي مثقف هو المعني بهذه العلاقة، وما الرأسمالية المقصودة في هذه العلاقة؟
المثقف هو المشتغل في حقل إنتاج الافكار ومساءلتها ومداولتها والتعليق على مآلاتها ومفاعيلها المجتمعية والفردية. المثيرُ أنّ كثرة من كبار المثقفين أبدوا ميلاً فكرياً تجاه نوعٍ من الرأسمالية المهذّبة (أو الاشتراكية المطعّمة بحس إنساني، لا فرق!!). فلاسفة من طراز برتراند رسل مثلاً صرّحوا عن ميولهم المتناغمة مع جهود الجمعية الفابية Fabian Society التي سعت لاعتماد حركية هادئة مسالمة نحو نمط من الاقتصاد التشاركي المدعم بمظلة دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State. هؤلاء الفلاسفة والمثقفون لم يكونوا يساريين مكرّسين، ولا معنى أصلاً في توصيفهم آيديولوجياً بأنهم يساريون لأنهم كتبوا بقسوة بالضد من التجربة الشيوعية التي رأوا فيها تكريسا للسلطة الشمولية. هم أرادوا موازنة معقلنة -مقبولة من الوجهة الاخلاقية وممكنة من الوجهة العملية- بين الرغائب الفردانية وسلطة الدولة في منع الاستغلال وحماية مصالح الفرد. الفكرة الجوهرية لدى هؤلاء المثقفين هي أنّ الرأسمالية ليست آيديولوجيا أنيقة بقدر ما هي منهج عملي حتى وإن إتّسم أحياناً بشيء من القسوة والحزم ومنع مظاهر التبطّل والتكاسل والاتكاء على المعونات من جانب الدولة أو المؤسسات غير الحكومية. من جانب آخر رأى هؤلاء في الماركسية -وهي الضد النوعي للرأسمالية- نسقاً فكرياً أنيقاً؛ لكنه لا يعمل بكفاءة بما يقود لنتائج فاعلة. ربما أرادوا نوعاً من المزاوجة والتعشيق بين الماركسية والرأسمالية، وهذا ما نجد له صدى داخل القلاع الرأسمالية ذاتها (وأهمها أمريكا) بدأ يتعاظم وبخاصة بعد الازمة المالية المدمّرة عام 2008.
هذا عن المثقفين؛ أما بشأن الرأسمالية فثمة تباينات كثيرة أيضاً. ما هي الرأسمالية المقصودة بأن تكون هدفاً لحُبّ المثقفين أو كراهيتهم؟ الرأسماليات أنواع شتى. وجدت الرأسمالية الاولى في البروتستانتية جذراً فكرياً وأخلاقياً لأطروحتها الاقتصادية: على الفرد أن يعمل بكلّ قواه العقلية والجسدية لينال مكانته المرغوبة في المجتمع. حصلت الانتقالة الكبرى في الرأسمالية مع مقدم السياسات النيوليبرالية في حقبة التاتشرية البريطانية والريغانية الامريكية عندما إرتدّت الرأسمالية على أساسها الاخلاقي لكي تصبح تغولاً إقتصادياً صارت بموجبه الحكومات مجرّد لاعب مسلوب القوى في تنظيم آليات السوق. السوق صار هو اللاعب الاعظم، والاصول المالية الحقيقية صارت مشتقات مالية تعبّر عنها مجموعة أرقام فحسب.
قبول ام رفض؟
قلت سابقاً أنّ الماركسية لها أناقتها الفكرية وجاذبيتها الاخلاقية؛ لذا من المتوقّع أن تستميل الكثير من المثقفين؛ غير أنّ عقوداً من التطبيقات العملية أبانت أنّ الرأسمالية كانت أكثر كفاءة في الوفاء بحاجات الناس ورغائبهم. المرء لن يعتاش على الافكار عندما تكون معدته خاوية وصحته معتلة وحاجاته الاساسية منقوصة أو غائبة. الوقوف في طوابير من أجل بعض الزبدة أو اللحم ليس بالتجربة الطيبة التي تدعم أي نسق إقتصادي مهما كانت خلفيته الفكرية أنيقة ومتّسمة بالرفعة الاخلاقية.
لكن في الوقت ذاته أبدى بعض المثقفين إمتعاضاً مبدئياً تجاه الرأسمالية. هم لم ينكروا بعض مزاياها؛ لكنهم رأوا أنّ هذه المزايا جاءت باهضة التكلفة من الناحية الانسانية، وقد تعاظم هذا الامتعاض لديهم عقب تغوّل السياسات التاتشرية والريغانية في المد النيوليبرالي الذي حصل في بداية ثمانينات القرن العشرين. لم يستأنس هؤلاء المثقفون أبداً لفكرة السوق الحرّة المحكومة بآليات العرض والطلب والمتفلتة من كلّ تنظيم قانوني، وقبل هذا لم يستأنس هؤلاء أن تكون الرأسمالية سبباً ووسيلة لتركيز الثروة في يد ثلّة من الرأسماليين الذين لم يُعْرَفْ عنهم مناقب ثقافية مشخّصة. صارت مسألة ثنائية العقل – المال تحتلُّ في زمننا المعاصر مكانة مركزية شبيهة بمعضلة العقل- الجسد في القرون السابقة، وراحت الكتب تترى في كيفية ترويض العقل والنفس لكي تتحوّل إلى آلة تعرف كيف تقتنص المال من غير أي معوّقات نفسية أو ذهنية.
لنتأملْ مثلاً كم يكسب أستاذ فلسفة أو أدب أو سوسيولوجيا أو علم نفس في جامعة هارفرد سنوياً؟ ولنقارنْ هذا مع ما يكسبه مارك زوكربرغ مثلاً سنوياً؟ لا مجال للمقارنة. هذا المثال يكفي لبيان أحد أسباب كراهية المثقفين للرأسمالية رغم أنهم يعترفون بأنها وفّرت لهم عيشاً طيباً. يمكن أن نقرأ بكيفية مسهبة عن تفاصيل مثل هذه في كتب كثيرة منها: العقل في مقابل المال Mind vs. Money لمؤلفه آلان إس. كاهان Alan S. Kahan. العنوان الثانوي للكتاب كاشف عن الطبيعة المباشرة لموضوعه: الحرب بين المثقفين والرأسمالية.
موقف المثقف المراوغ إزاء الرأسمالية اليوم
إختلف الحال النوعي في علاقة المثقفين بالرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. الثقافة الكلاسيكية صارت أقلّ طهرانية وأقرب لمفهوم خلق الثروة الحقيقية ومغادرة مفهوم الاشتغال في نطاق العوالم الرمزية. صار معظم المثقفين يسعون لإقتطاع حصتهم التي يرونها مشروعة من الثروة العالمية. الرأسمالية كذلك صارت عُرْضة لهجمات التقنيات الرقمية التي جعلت من الرأسمالية الرقمية مفهوماً يختلف عن الرأسمالية الكلاسيكية وليس محض امتداد له.
لم يكتف المثقفون في أيامنا هذه بإبداء مظاهر الامتعاض من الرأسمالية أو مناصرتها. أستاذ الفلسفة في هارفرد اليوم لم يعُد يكتفي بمرتبه السنوي بل صار يسعى لنشر كتب ذات محتوى مرغوب عالمياً تحت إشراف دور نشر عالمية تجيد صنعة الترويج والاشهار. لم يكتفِ الاستاذ في الثقافة الكلاسيكية بنشر كتب تلقى رواجاً؛ بل هو في الغالب صاحب Podcast ومدوّنة ألكترونية تدعم مسعاه الترويجي وجهده في كسب المزيد من المال. لم يقتصر الامر على أعالي الثقافة الكلاسيكية (الفلسفة والادب مثلاً)؛ بل أنّ كثرة من علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والادب إنخرطوا في لعبة كسب المال عبر النشر المكثف. قلّما تمرّ سنة دون أن ينشر هؤلاء كتاباً لهم.
إنها لغة المال التي تفرض سطوتها في نهاية الامر، وليس الحب أو الكراهية إلا تمثلاتٍ نفسية لمقدار حصة المثقف من المال. هذه بعض طبيعة البشر، وعلينا القبول بها وترويضها بقدر الممكن للصالح العام والفردي معاً. هذا أقصى ما يمكن فعله.
الرأسمالية في رؤى متناقضة لمثقفين معاصرين
نشر في: 7 أغسطس, 2024: 12:06 ص