د. نادية هناوي
كُتبت في الذكاء الاصطناعي التقليدي دراسات ومؤلفات كثيرة بعكس الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يندر أن نجد مؤلفا مخصوصا به، ولعل الباكورة في هذا المجال تتمثل في كتاب(الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم العالي: تأثيرات ChatGPT) الصادر عن روتليدج 2024. واشترك في تأليفه توم كولوتون وسيسيليا كا يوك تشان. وميزة الكتاب أنه يتخصص في أمرين مهمين: الأول هو روبوت المحادثة ChatGPT كأهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، والأمر الآخر هو تطبيقه على التعليم العالي كمجال حيوي واسع النطاق. ومن دواعي تأليف الكتاب البحث في مزايا الذكاء الاصطناعي التوليدي واخفاقاته ولماذا (يعاني أحيانًا من صعوبات في تنفيذ المهمات اليسيرة. وقد لا يظهر فهمًا عميقًا، بل ربما يحاكي أنماط الفهم البشري من خلال البيانات التي تدرب عليها. وهذا ما يجعل من الذكاء التوليدي ذكاء عرضيا أكثر منه ذكاءً اصطناعيا.) كما يقول توم كولوتون.
ويقدم الكتاب مسحا شاملا لاستعمالات تطبيق ChatGPT وتأثيراته في الذكاء الاصطناعي التوليدي في مؤسسات التعليم العالي سعيا إلى التعريف بآليات عمل هذا الذكاء وسياقاته التكنولوجية بدءًا من الشبكات العصبية ووصولاً إلى أحدث تقنيات هذا الذكاء مع التركيز على كيفيات دمج هذا التطبيق بالمناهج الدراسية وتحديد نقاط القوة والضعف في تقييم هذا الدمج. وبسبب عمومية التفاعل مع ChatGPT ولا تخصصيته، سلط الكتاب الضوء على تأثيراته في التعليم العالي وبحث في التحديات التي تواجهها المؤسسات التعليمية بسببه، وهي لا تقل أهمية عن التحديات التي يواجهها النظام البيئي.
إن ما يجعل الذكاء الاصطناعي التوليدي ذا فاعلية أكبر من الذكاء الاصطناعي التقليدي، هي قدرته على الاندماج في كل مجالات الحياة وبأشكال ووظائف مختلفة، تبدأ من الرسائل النصية ولا تنتهي عند تطبيقات الترجمة الآلية ومحركات البحث ومنصات المصارف والتجارة الإلكترونية مثل امازون Amazon وخدمات البث مثل Netflix، وجميعها مصممة لخدمة المستخدم. وهذا ما يراه مؤلفا الكتاب أمرا شائعا وطبيعيا، لكن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال المناهج الدراسية وتصميمها، قد لا تلبي الطموح ولا تكون في مستوى التوقعات دائمًا، اذ قد تبرز معوقات معينة. وهذا ما يفرض طرح الأسئلة مثل: إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مفيدًا في مناهجنا الدراسية؟ وهل نعرف ما نقاط قوته وما نقاط ضعفه؟
معروف أن ChatGPT تطبيق تم تطويره كنموذج لغوي مبني من شبكات عصبية عميقة تم تدريبها على مجموعة واسعة من النصوص، تجعله قادرا على الفهم والاستجابة بطريقة تحاكي قدرات البشر، فيوِّلد نصوصا بالذكاء الاصطناعي أو يشارك في محادثات شفاهية أو ينشئ محتويات صوتية ومرئية متماسكة وغنية بالمعلومات وفي مختلف المجالات المهنية.
وحدد مؤلفا الكتاب ميزات هذا التطبيق، ومنها التحليل المعقد للبيانات وتحديد الاتجاهات وعمل الإحصاءات ورسم الأنماط المولدة لرؤى جديدة حول تصميم المناهج الدراسية وتقديم الترجمات والتعريفات والتمارين التي تفيد في ممارسة تعلم اللغة باستعمال تقنية Whisper (وهي عبارة عن نظام يتيح للمستخدمين التعرف على الكلام والتفاعل مع الذكاء الاصطناعي باستخدام الأوامر الصوتية). وهذه الوظيفة -بحسب كولوتون وتشان- مقيَّدة حاليًا بالتطبيقات المحمولة على منصات iOS وAndroid. اذ بإمكانها أن توسع وضع التفاعل بطريقة تشمل المدخلات الصوتية النصية في الهواتف المحمولة والحوارات الشفاهية مع ChatGPT مثل طلب المساعدة أو المناقشة في مسالة ما. ومن الميزات أيضا تحويل المحتوى النصي إلى صور ورسوم بيانية ومخططات توضيحية. وهذا ما يساعد في إنشاء تجارب مختلفة، منها يتعلم الطلاب مهارات كثيرة ويتمكن المعلمون من الإفادة من مجموعة واسعة من الأساليب والطرائق وحسب احتياجات المتعلمين. ومن المهارات والاساليب التي يقدمها ذكاء ChatGPT الاصطناعي التوليدي لمؤسسات التعليم العالي:
- توليد محتوى دينامي يتناسب مع السياق المهني، مما يساعد في البحث وتوفير مواد تعليمية تفاعلية للطلاب.
- تغطية شاملة لمجالات ذات مجموعات بيانية واسعة، وتحليلها واستكشاف أبعادها، وبالشكل الذي يساعد المعلمين في تدريس مواد متنوعة وبفعالية معرفية.
- القابلية على التوسع بشكل كبير، مما يعني أن بإمكان المؤسسات الإفادة من مختلف القدرات في دعم العروض التعليمية.
- أن تتناسب تجارب الطلاب الشخصية مع احتياجاتهم الفردية وبما يجعلهم أكثر تقبلًا وفهماً للمعلومات.
- توفير الوسائل التعليمية المساعدة وإنشاء تمارين عملية تدعم عمل المعلمين بشكل فعّال، وتقدم تغذية راجعة لمشاريع الطلاب، مما يساعد في تحسين طرق تدريسهم وعمليات تعلمهم.
ولتوضيح هذه الميزات بشكل عملي، عرض المؤلفان نماذج من تطبيق ChatGPT-4 (استنادًا إلى أحدث إصدار في 25 سبتمبر 2023) يمكن لمؤسسات التعليم العالي أن تتخذها أدوات تعزز من خلالها عروضها التعليمية وتحسن أداء طلابها بفعالية وعمق كإنشاء المحاضرات وتصميم مناهج الدراسة التفاعلية والتقييم التلقائي والتغذية الراجعة وتصفح الويب بمحرك Bing. مما يسمح بتوليد استجابات أكثر دقة، تتيح الوصول بسرعة إلى المعلومات المطلوبة. وهذا ما يضمن تحديث المحتوى التعليمي وتوسيع قدراته النصية والصوتية والصورية عبر دمج DALL-E في ChatGPT.
وفصّل كولوتون وتشان القول في وظائف تطبيقChatGPT وهي(التصميم/ المحادثة/ التباين/ تعدد الوسائط/ التوسعة/ التخصيص/ التغطية/ الارتباط / تعدد اللغات/ ملاءمة الموضوعات/ توليد الشفرة) ثم توسعا في شرح بعض وظائفها الرئيسة وهي:
- التفاوت حين نطرح السؤال على المنصة نفسها مرتين فلا تكون الاستجابة هي نفسها دائمًا. وهذا ما يؤدي إلى نتائج متنوعة، قد تفاجئ بعض المستخدمين من الذين يعتقدون أن الحواسيب والذكاء الاصطناعي متسقة في عملها إلى حد كبير. ومع ذلك، تكون هذه التفاوتية مقصودة، بهدف جعل التفاعلات مع الذكاء الاصطناعي أكثر دينامية وبنطاق واسع. ويشبه المؤلفان هذا التفاوت بعملية التحدث مع أشخاص مختلفين حول موضوع معين. فلا نحصل على استجابة متطابقة أو مشابهة تمامًا، بل تتباين الاستجابات وأحيانا تكون مختلفة بدرجة كبيرة.
- التعدد في الوسائط تؤدي إلى تعدد في قدرة الذكاء الاصطناعي على الفهم والتفسير وإنشاء محتوى مما هو نصي أو صوتي أو صوري أو فديوي وبأشكال مختلفة من الإدخال والإخراج وبأوضاع تفاعلية متعددة. ولهذا كله تأثير كبير في مجال التعليم العالي، ويلبي الاحتياجات التعليمية المختلفة مثل الإجابة عن الأسئلة وتحليل الصور واسترجاع البيانات النصية وتلخيصها وتقديمها في شكل بصري سهل الفهم وإنشاء رسوم بيانية بصرية وتحويل البيانات عبر الوسائط الافتراضية بمرونة. وبما يضمن لتجارب التعلم والتدريس أن تكون غنية ومتنوعة. ليس ذلك حسب، بل أنها توفر أيضًا إمكانية الوصول إلى أساليب جديدة في التعلم ترفع كفاءة الوسط الأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي بشكل كبير.
- التوسعة وتعني القدرة على التعامل بفعالية مع مجموعة واسعة من التطبيقات كأمر أساس في إدارة العمليات التعليمية المتنوعة وخدمة الطلاب وتذليل الأعباء المهنية على تفاوت مستوياتها، بدءا من إنتاج مقتطفات نصية قصيرة إلى إنتاج محتوى أطول. تتيح هذه الوظيفة خدمة عدد متنوع ومتزايد من المستخدمين، وإدارة مجموعات كبيرة من البيانات وأداء عمليات حسابية أكثر تعقيدًا من دون التأثير في كفاءة المستخدم على تقييم الواجبات وتقديم تعليقات شخصية أو إنشاء مسارات تعلم تتكيف معها مجموعة من الطلاب. علاوة على ذلك، فان للتوسعة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي أن تطور البيئة التعليمية وتحسن الوظائف الأكاديمية والإدارية بسلاسة وكفاءة، وبالشكل الذي يمكن الباحثين والمعلمين من استخلاص رؤى واتجاهات، تساهم في تحسين قدراتهم على صنع القرارات الأكاديمية.
هذا الى جانب القابلية على التخصيص كجزء من البيانات التي تم تدريب الذكاء التوليدي عليها، وهي متاحة للأفراد كي يطوروها وينشروها بأنفسهم. غير أن هذه الوظيفة تظل قيد المراقبة انطلاقا من طبيعة الواقع التجاري الذي يضبط ويخصص الذكاء الاصطناعي في مجالات بعينها وبشكل محدد. بعد أن يكون قد تم تدريبه على إنتاج استجابات عالية الجودة بشأنها.
ويرى المؤلفان كولوتون وتشان في القابلية على التخصيص تحديا كبيرا إذ (على الرغم من أن مثل هذا التخصيص يسهل تقديم دعم شخصي وفعال للمهام الأكاديمية ذات الصلة، فمن المهم أن نلاحظ أن تحقيق هذا المستوى من القابلية للتخصيص يتطلب جهدًا كبيرًا وخبرة، بالإضافة إلى إعداد بيانات التدريب والاختبار اللازمة لتدريب النماذج وتشغيلها.)
إن القابلية على التخصيص في الذكاء الاصطناعي التوليدي تُظهر إمكانية تكييفه وفقًا لاحتياجات وتفضيلات المستخدمين المختلفة. وهذا ما نراه نقطة من نقاط ضعفه التي تجعله غير قابل لأن يُطبق على نطاق عام. - Chan, Cecilia Ka Yuk and Colloton, Tom, Generative AI in Higher Education: The ChatGPT Effect, Routledge, First edition, New York, 2024.
