ستار كاووش
أسرعتُ بالخروج صباحاً نحو مركز مدينة ليل، فإنكشفتْ أمامي الشوارع والزوايا معلنة عن شيء من البهجة، وإنثالتْ حميمية المكان لتروي حكاية من حكايات الجمال والتفرد، فلا شيء يقف في وجه الجمال، إنْ كان هذا الجمال عفوياً وغير مصطنعاً، أي نابعاً من الروح. تجاوزتُ بناية البورصة القديمة التي تعود للقرن السابع عشر وتُعتبر أجمل بناية في مدينة ليل، وتخطيتُ الكثير من المقاهي والمطاعم الصغيرة التي كانت تنبثق من كل من الزوايا والمنعطفات، وقد بدتْ بعض هذه المطاعم أصغر من اللازم ولا تتسع سوى لبضعة أشخاص، وتكتفي بطاولتين أو ثلاث طاولات صغيرة مع عدد من الكراسي، حيث تنبعث منها رائحة القهوة والكعك الفرنسي صباحاً، فيما تتسرب نفحات النبيذ من بين أبوابها مساءً.
إنعطفتُ نحو شارع صغير ففاجئني مشهد إمرأة في الثمانين من العمر تقريباً، تقود دراجتها الهوائية على مهل، وقد ثَبَّتَتْ على المقود بضع وردات حمر تنسجم مع الزهور المطرزة على الوشاح الذي تلفه حولَ كتفيها، وقد إستقر خلف دراجتها صندوق كارتوني أزرق اللون وضعت فيه كلبها الصغير الذي يتلفت بمتعة نحو المارة. وبوجهها المشرق حيث يسطع أحمر الشفاه مع نصف إبتسامة، توارَتْ بدراجتها في جادة ضيقة وكإنها في مشهد سينمائي للمخرج كلود ليلوش.
وصلتُ الى شارع دي لامونيه، أي شارع النقود، وهو أقدم شارع في مدينة ليل وأكثرها شعبية، وهذا الاسم الذي يبدو غريباً، كان قد إكتسبه الشارع بعد أن إستولى لويس الرابع عشر على مدينة ليل من الهولنديين سنة ١٦٦٧ وأنشأ وسط الشارع داراً لسك النقود. وصلتُ الى منتصف الشارع، فغيَّرتُ طريقي نحو جهة اليسار حيث شارع (فيو مور) ومعناه الجدار القديم، وهو مليء بصالات عرض الأعمال الفنية والحانات الصغيرة والبيوت القديمة المتكأة على بعضها، وأسفل واجهة كل بيت تظهر بوابة صغيرة مربعة الشكل تؤدي الى قبو تابع لذات البيت، وكان الناس في القرن التاسع عشر -ومازالوا- يستخدمونها لحفظ النبيذ والأطعمة. وبما أن الفرنسيون لا يستطيعون التخلي عن مزاجهم وطباعهم الفرنسية، لذا لا يترددون بالوقوف بطوابير كثيرة للحصول على وجبتهم المفضلة من كعك الكرواسون الذي يشتهرون به، والذي فاحت نكهته من أحد الأفران الصغيرة في بداية هذا الشارع. ولم أكد أتجاوز الفرن المزدحم، حتى ظهرت لي مقهى هولندية ظلَّتْ محتفظة بروح الأراضي المنخفضة التي مازالت تنبعث من بين شوارع وبيوت هذه المدينة، وحتى اليافطة قد تَمَّ الكتابة عليها باللغة الهولندية (بير باوك) كإسم للمقهى، ومعناه (بطن الجعة) وهو تعبير هولندي شهير يطلقه الهولنديون على سبيل المزاح على الرجال الممتلئين الذين يحتسون الجعة بكثرة.
تجولتُ وسط الغاليرهات التي ملأت شارع (الجدار القديم)، فوقفتُ أمام إتجاهات مختلفة بالرسم، لا تكتفي باللوحات الواقعية ولا تنتهي عند الأعمال التجريدية، وقد عرض بعضها منحوتات برونزية لنساء في وضعيات مختلفة، وقد اعجبتني مجموعة من اللوحات المنفذة بطريقة التكستيل أو الأقمشة الملونة وبطريقة فيها الكثير من الابتكار والخصوصية. وبين هذه الغاليرهات التي تمتد على طول الشارع، إنبثق مطعم إيطالي صغير إسمه (حظ سعيد) وهو ما أضافَ الى المكان نوعاً من البهجة التي تأكدتْ لي وأنا أرى ثلاث مزهريات إمتلأت بالورد الأحمر ووُضِعَتْ على حافة نافذة المطعم الخارجية، والجميل إن المزهريات لم تكن في الأصل سوى علب لمعجون الطماطة، وهذا وحده يعكس شيئاً من روح ايطاليا وسط كل هذه التفاصيل الفرنسية. تركتُ المطعم الإيطالي خلفي ومضيتُ نحو شارع برنسيس، حيث ينتصب في وسطه بيت ديغول، الذي تحول الى متحف، وهو المكان الذي ولد فيه الرئيس الفرنسي الشهير، بيت واسع يعود للقرن التاسع عشر، بطابقين وبلون رمادي ونوافذ عديدة بلون أخضر خافت، حيث يرفرف فوق بوابته العلم الفرنسي، تطلعتُ الى المكان من الخارج، وفكرتُ بالدخول لكني أَكملتُ طريقى الى نهاية الشارع، حيث مطعم مغربي إسمه أغادير، جذبني من بعيد بواجهته الخارجية ذات اللون البرتقالي، والأبواب الحمر الداكنة التي علتها بعض الزخارف، حتى بدا كإنه متحف، وقد استهواني هذا المكان أكثر من بيت الجنرال الأسبق، فدخلتُ لتناول بعض الطعام وأنا أُتمتم مع نفسي: الطعام والشراب الجيد أفضل من بيت أي رئيس… حتى لو كان ديغول.