TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: همسةُ متعلّم في أذن خطيب

قناطر: همسةُ متعلّم في أذن خطيب

نشر في: 14 أغسطس, 2024: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

مساءَ أمس، في مجلس بالقرية دعيتُ له، مع عدد من الاهل والأصدقاء، أقامه أحدُ أقربائي، بمناسبة دينية خاصة، فوجئت بأنَّ معظم الجالسين، في الغرفة الضيقة كانوا يرتدون ثياباً سودا. في مشهد بدوت فيه غريباً، مع ثلة قليلة من المفارقين والمختلفين في ألوان ثيابهم. كنتُ أرتدي ثوباً أبيضَ، فنحن في النصف الأول من آب، وأنا غير معنيٍّ بالمناسبة تلك، إذْ لي قراءتي الخاصة بها، وبصراحة فأنَّ المجلس لم يرق لي، حتى ليمكنني القول بأنه أفسدَ عليَّ لقائي ببعض من أحبّهم فيه، لذا بدوتُ ملولاً وضجراً، حتى لكأن الجدران أخذت رأسي الى الصلد من حجارتها وأدمته.
بلغ برمي من المجلس لحظته القصوى حين قام أحدهم بترتيب مكبّر الصوت، ومدِّ الاسلاك، داخل الغرفة الصغيرة، ثم أنَّ رجلاً بثياب سود أيضاً، وغترة وعقال أعدَّ نفسه ليكون الخطيب فيها، ولأنني، لا أحتملُ ما سيقول، والذي أحفظه عن ظهر قلب، فقد غادرتُ، دون أنْ أشعرَ أحداً بذلك، ولم أعدْ اليه إلا بعد أن فرغ الخطيبُ من خطبته، وتصالح الجالسون مع ما قاله، وأكّده، وختمه بالدعاء، الذي دأبوا على سماعه وتكراره، ولكي لا أتجنى على كثير منهم، فهم أناس طيبون، صادقون، ومنسجمون مع ذواتهم، ومن مقامي هذا أقدّر لهم سعادتهم وسرورهم البالغ في مثل هكذا مناسبات، التي غالباً ما تُختتم بوليمة عامرة باللحم والرز والخضار واللبن والفاكهة.
المجالس هذه تحيلنا إلى مجالس العرب المسلمين قبل أكثر من ألف عام، وقراءة تاريخ المدن الكبيرة مثل البصرة تكشف عن المزيد من الوشائج، التي تربط بين الأجيال التي تعاقبت على هذه الارض، لكنَّ قراءة عارفة تكشف عن حجم الفارق في الوعي، ففي المجالس الحسينية، بخاصة التي نشاهدها على شاشات القنوات الدينية، أو في وسائط التواصل الاجتماعي لا نلمس تفاعلاً بين الخطيب وعموم الحاضرين، فهو يتحدث ويقول وهم صامتون، مستجيبون، وإن جاء بالخبر الكاذب، والسند الضعيف، والرواية الغريبة، ذلك لأنَّ فكرة الخطيب وما يأتي به مقدسة لديهم، وهي أكبر وأعظم بالفطرة مما في عقولهم، مع وحضور الطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي والاقتصادي ورجل المال، ولم يحدث أبداً أنْ وقف أحدُهم معترضاً على رأي وفكرة ورواية، ونلمسُ قطيعة تامة بين خطاب المرسِل والمرسَل اليه.
على خلاف ذلك نقع على ما نقرأه بكتب اللغة وعلوم القرآن والحديث والادب في البصرة وبغداد ودمشق والقاهرة وغيرها، إذْ أننا حين نقلب صفحات ما كتبه العلماء بهذا في الفترة تلك نجدُ الأمر مختلفاً جداً، فهناك التفاعل الكبير بين الأستاذ الخطيب وجمهور الحاضرين، وهناك من يعترض ويصوّب ويغضب ويغادر، مثلما هناك من يقبل ويؤمِّن وينسجم ويتفاعل، وهذه أبواب صريحة للعلم، فتحت للعرب قبل الإسلام وبعده، ونجدها في أسواق الشعر بعكاظ والمربد وغيرها وفي هذا ما ينفعنا منها بتلمس الصورة كاملةً. ما كان يحدث في حوار اللغويين والعلماء والبلغاء بمسجد البصرة الجامع يجعلنا نتساءل السؤال التقليدي: لماذا تراجعَ الخطاب، وانقطعت تلك الوشائج، بالغة الاثر بين طبقة العلماء وجمهور الحاضرين؟ وهل من سبيل لإعادتها؟
لم تكن مغادرتي للمجلس الفقير ذاك تعبيراً عن رفض، ولا كراهة، ولا لكبر أراه في نفسي، أبداً، فمجالس الأثر والتاريخ واللغة والاختلاف أحبُّ المجالس عندي، وأكثرها غنى ومنفعة لكنني، أرفض أنْ أعاملَ كببغاء، عليها ترديد ما لا يستحق، كما أنّني أبعد ما أكون عن النواحَ واستدرار الدموع والبكاء على الاطلال. ما أريده هو التفاعل وبلوغ النتائج والاحتكام الى العقل. أزعم أنها همسة متعلم في أذن من يدعي العلم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram