TOP

جريدة المدى > عام > الرسام والنحات جواد سليم

الرسام والنحات جواد سليم

شخصيات عرفتها أغْنتْ عصرنا

نشر في: 14 أغسطس, 2024: 12:01 ص

بلقيس شرارة
إن جواد سليم من أول الفنانين العراقيين، الذي بعد إكمال دراسته في إيطاليا وأنكلترا، وعمله في المتحف العراقي لمدة، "أدرك أن هناك سعة الثقة التي تقطع فاصلة بينه وبين الفن القديم في العراق، غير ان عاملين اثنين فعلا في نفسه اشد الفعل، هما التطور الأوربي المتمثل في دراسته ورفقائه من ناحية، وتراث العراق الضخم الذي كان بين يديه في المتحف العراقي من ناحية أخرى. وهو أول من نقل على لوحة الرسم أو الخشب الوجه العراقي والطابع العراقي". هذا ما ذكره رفعة، في كتابه: "الإخيضر والقصر البلوري"، عن جواد.
لقد جمع جواد بين الرسم والنحت، إذ أن هنالك علاقة وثيقة بين الإثنين، وعندما عاد بعد أن أنهى دراسته، كانت هنالك علاقة قوية بينه وبين الرسام فائق حسن، الذي أسس جماعة "الرواد" قبله، ولكن جواد اسس بدوره جماعة بغداد، التي لم تكن تقتصر على الفنانين من الرسامين والنحاتين، وإنما شملت الشعراء الذين كانوا يحاولون تجديد الشعر، من الكلاسيك إلى ما يطلق عليه " بالشعر الحر" أي بلا قافية، وكان من بين أصدقائه وبلند الحيدري وبدر شاكر السياب وكاظم جواد وغيرهم.
ودرّس في معهد الفنون الجميلة، الذي انشأ في البداية كمعهد لدراسة الموسيقى العربية والغربية عام 1936، وفي عام 1939 أضيف إليه فرع الرسم والنحت وثم التمثيل والإخراج، ثم أصبح أكاديمية الفنون الجميلة العليا. كان جواد من المدرسين الأوئل مع الرسام فائق حسن، عندما أسس فرع الرسم والنحت. كان جواد فنانا مثقفاً بين الفنانين، وكان يجمع بين معرفته بالآداب العالمية والفنية معاً. كان من المعجبين بالنحات البريطاني هنري مور/ Henry Moor وبيكاسو وخاصة الكونيكا/ Guernica، التي تمثل قصف المدينة في اسبانيا عام 1937. وانطلق بالرسم من المحلي الى العالمي، حيث درس الحضارات القديمة، وكان يضيف من هذه الحضارات لكنه لم ينقل منها بل حاول صهرها بروح عراقي، كما درَس رسوم الواسطي الإسلامية، وحتى الأزقة البغدادية. لذا كان جواد مثقف ثقافة عالية في تاريخ وتطور الطرز الأوربية في الفن، يتمتع بقدرات عالية عامة في تقنية الرسم ووسع المخيلة. وأثر على الفنانين الذين جاؤوا بعده، من أمثال اسماعيل فتاح الترك ومحمد غني حكمت وغيرهم.
وقد أكد الرسام فائق حسن في إحدى رسائله، على عمق علاقته بجواد، حيث يقول:" أذكر منهم جواد سليم، الذي التقيت به إلى حين وفاته وقد اثمرت تلك العلاقة آثارا قيمة واضحة في الفن العراقي المعاصر حينما جاهدنا في دراسة المشكلة الفنية بعد انهاء الدراسة في الخارج وساعدتنا الظروف آنذاك على تفهمهما وفتحنا الطريق للجيل الجديد ليشق طريقه على ضوء اعمالنا.. وقد انفردت مرة اخرى بعد وفاة هذا الزميل الذي لن يعوض".
كانت أول مرة ألتقي بالرسام والنحات جواد سليم عام 1951، عندما طلبت مني الرسامة نزيهة رشيد ان ترسم صورتي، مع لورنا زوجة جواد، وشقيقته نزيهة سليم، فوافقتُ على ذلك وذهبتُ معها لدار جواد سليم. وجلست عدة مرات حتى أكملن الصورة. وإذا بجواد في آخر يوم لزيارتي لهم، يلزم القلم ويرسم خطوطاً قليلة تنم عن ملامح وجهي بأقل من نصف ساعة، وقدمها لي، فشكرته وقلت له هل أحتفظ بها، فاجاب: نعم إنها لك. ولكن مع الأسف فَقدتُ "السكج" الذي رسمه جواد، إذ بعد انتفاضة 1952، فُتشت دارنا من قبل المخابرات، ومن جملة الأوراق التي صادروها كان السكج الذي رسمه جواد، فضاع مع الكتب التي فقدت من مكتبة والدي.
وعادت اللقاءت بجواد وزوجته لورنا، بعد اقتراني برفعة الجادرجي، إذ كان الفنانون والمعماريون يجتمعون في الليالي في دار أحد الفنانين أو المعماريين، وكان البحث يدور عما يجب ان يمثل الفن العراقي. وكان جواد من الذين يشاركون بالنقاش. كما كنا نلتقي في افتتاح المعارض التي تقام آنذاك. توثقت العلاقة بيننا، حيث كان جواد يزونا، كلما رسم صورة جديدة لكي يطلع عليها رفعة قبل عرضها في المعارض التي كانت تقام آنذاك. كان في بعض الأحيان يزورنا في البيت ويقول لرفعة وبيده قطعة فنية فيدفعها له باسماً ويقول: "خذها لأنني أريدها أن تُحفظ عندك، وأدفع لي بعدين".
ذات يوم زارنا جواد بصحبة زوجته لورنا، مع مجموعة من الأقراط/ حلق الأذن، التي صممها، وطلب من رفعة أن يصورها قبل بيعها، فصور رفعة لورنا بالأقراط، ثم صورني بها. بعد سنوات طلب الكاتب جبرا ابراهيم جبرا صور الأقراط من رفعة، لأنه كان يكتب كتاباً عن جواد سليم، فبعث له "سلايدات" الأقراط التي صّور بها لورنا، ولم يعيدها جبرا، بل ضاعت عندما تعرّضت دار جبرا للهدم بواسطة قنبلة كانت موجهة للسفارة المصرية القريبة من دار جبرا في عام 2004.
بعد ثورة 14 تموز، طلب عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك من رفعة تصميم ثلاثة أنصبة، أحدهم: الجندي المجهول والثاني ثورة 14 تموز والثالث نصب الحرية.
فصمم رفعة نصب الجندي المجهول، وذهبتُ معه إلى دار جواد، ودار الحديث بينهما: قال له: لقد طلب مني عبد الكريم قاسم تصميم نصب لثورة 14 تموز، وسيكون النصب في بداية حديقة الملك غازي سابقاً التي سميت بساحة التحرير. وسأجهز لك المكان الذي يوضع فيه النصب، والموضوع سيكون عن: ما قبل الثورة، والثورة وما بعد الثورة. وسيكون لافتة بخمسين متراً. تحّمس جواد جداً للفكرة، وأجاب رفعة: إنه لم ينُحت نصب بهذا الحجم منذ زمن الآشوريين.
بعد مدة قليلة سافر جواد وعائلته إلى فلورنس في إيطاليا ليقوم في تنفيذ النصب، وفي عام 1959، سافرنا إلى إيطاليا، وزرنا فلورنس، وكان جواد في تلك الفترة، يعاني من أزمة نفسية أدت به إلى دخول المستشفى.
فذهبنا مع لورنا إلى المستشفى، وفوجيء جواد بزياتنا له، وتكفله رفعة واخرجه من المستشفى. والتقينا مرات عديدة في فلورنس، وكان جواد يأخذنا للمطاعم التي لا يؤمها السواح، وكان أصحاب المطاعم يرحبون به. والتقينا آنذاك بالنحات محمد غني الذي كان يدرس في روما النحت، لكنه جاء إلى فلورنس لمساعدة جواد في النصب.
عاد جواد بعد أن أنهى النصب، ووصلت القطع وبدأ العمل في الساحة، وكانت الشائعات تدور في بغداد، أن رئيس الوزراء يرغب في أن توضع صورته في النصب لكي تدل على الثورة. حاول رفعة جهده ان يتجاهل ذلك لأنه يعرف أن أي إنقلاب سيحدث في المستقبل سيكون النصب عرضة إلى الهدم.
أثرت هذه الشائعات على صحة جواد كثيراً وأصيب بنوبة، نقل على أثرها للمستشفى. ذهبتُ مع رفعة إلى المستشفى، كان متعباً، وفي المرة الثانية التي زرناه في المستشفى كان وضعه قد تحسن، لكن خلال هذه المدة أصيب بنوبة أخرى أدت بحياته.
وأخُبر رفعة بذلك، فذهب إلى المستشفى، وعاد كئيباً، صامتاً، شعر بأنه قد فقد إنساناً وفناناً مهماً، كان في عنفوان انتاجه وإبداعه. توفي جواد يوم الأثنين مساء في 25 كانون الثانون الثاني عام 1961، ولم يكن عمره يزيد عن الأثنين و الأربعين عاماً. وفي اليوم الثاني شيع جثمانه، وحضر رفعة التشيع، وكان حشد من الفنانين، فقد بكاه فائق حسن، وانفعل خالد الرحال الذي صنع له قناع الموت، قبل دفنه في مقبرة الإمام الأعظم.
وهذا ما كتبه رفعة:
"لم أكن وانا أسير في الجنازة، حزيناً فحسب فالحزن ارتياح بل كنت كئيباً منقبض الفؤاد. لقد فقد العراق فناناً طليعياً، فناناً ملتزما بأخلاقية حرفية. فقدنا جواد إبان نضوجه ونمو مقدرته الخلاقة واقترابه من عنفوان الإبداع. وفقدتْ البلاد برحيله تلك الروائع الفذة التي كان لا بد سيولدها جواد، وما أثمرت حياته إلا القلائل من مناقب الفحول". رفعة الإخيضر والقصر البلوري. ص- 104
لقد شعر من أنه فقد إنساناً " يتقارع معه بالأحاسيس دون اللفظ بالكلمات. وصديقاً آوي إليه بفكري وخواطري كما يأوي الشريد إلى ملجأ أمين".
هكذا ذهب جواد، وفي اليوم الثاني ذهب رفعة إلى ساحة العمل لإكمال النصب. فقد شعر بالمسؤولية التي أصبحت مضاعفة بفقدان جواد. وطلب من العاملين من ينهوا النصب في الوقت المحدد. واستمر العمل بمثابرة متصاعدة فقد كان الجميع يحسون بالجو السائد آنذاك ويرغبون في انجاز العمل في سباق محموم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. نمير المهندس

    منذ 1 يوم

    مقالة سلسة ورائعة.شكرا لك.

يحدث الآن

بايدن: اتفاق غزة بات أقرب من أي وقت مضى

خرائط وبيانات ملاحية ترصد 77 خرقاً "إسرائيلياً" لأجواء أربعة دول عربية منذ تهديد إيران

مشعان الجبوري يخاطب "السيادة": اعتذروا والا

أمر قبض ومنع سفر لـ"زيد الطالقاني"

برلماني يكشف آخر مستجدات منصب رئيس البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

الرسام والنحات جواد سليم

ذكاء ChatGPT الاصطناعي وتحديات التعليم العالي

أهمية السيناريو في صناعة الفيلم السينمائي .. في البدء كانت الكلمة ـ السيناريو

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*

مقالات ذات صلة

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*
عام

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*

ترجمة: لطفية الدليمي يشيع نوع من الارباك والخلط في أجواء العوائل عندما تحكى القصص وتعادُ روايتها مرات ومرّات وتكون لها في نهاية الامر حياة خاصة بها لا علاقة لها –ربما- في قليل أو كثير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram