علي المدن
شاهدت الحلقة التي أعدها الأستاذ أحمد الحسيني على قناته في اليوتيوب وكان عنوانها (صراع قم مع النجف.. هل اقترب ظهور المرجع العراقي). وهي حلقة غنية بالمعلومات تنم عن جهد كبير بذله الحسيني مع عرض بارع ومشوّق. الحلقة هذه مهمة لأنها تثير أسئلة عميقة وحساسة ليس فقط عن ماضينا كعراقيين بل وعن مستقبلنا، وهي اسئلة ستبقى مفتوحة على مشاركات اخرى قادمة.
لقد أشار الاستاذ أحمد مشكورا إلى بعض كتاباتي ونقل عن قناتي في التلجرام، وبهذه المناسبة أود التعليق بعدة نقاط:
النقطة الأولى: في الدراسة المنشورة في كتاب "حوزة النجف" وضعت تقسيما ثلاثيا عن تاريخ الحوزة النجفية مكون من ثلاث مراحل أساسية:
الأولى: مرحلة التدشين. وهذه هي لحظة الانطلاقة، وتبدأ مع الشيخ الطوسي، ولكنها لن تستمر طويلا بسبب ظهور حوزة الحلة.
الثانية: مرحلة التمكين، وهذه هي اللحظة التي دعم فيها الصفويون الشيخ الكركي ماليا، فـ"تمكّن" من ترسيخ الحوزة والإنفاق على طلبتها وحلقاتها الدراسية، ولكنها لم تستمر بسبب تركيز الصفويين على بناء حوزتهم الداخلية (المستقلة، المسيطر عليها) في مملكتهم، وتحديدا في عاصمتهم أصفهان.
الثالثة: مرحلة التوطين، وهذه هي لحظة انتقال السيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء إلى النجف في القرن التاسع عشر. فهذان الفقيهان الكبيران، ولاسيما الشيخ كاشف الغطاء، هما البانيان الحقيقيان لحوزة النجف التي نعرفها اليوم.
بعد هذا ولدت مرحلة رابعة وخامسة:
الرابعة: مرحلة ما بعد الاستعمار، اي حوزة النجف في مرحلة صعود الإسلام السياسي، وتبدأ مع السيد الحكيم، وتهيمن عليها شخصية هائلة التأثير يمثلها السيد محمد باقر الصدر (وتستمر هذه المرحلة مع الشخصية الثانية بعد الصدر مع السيد محمد الصدر).
الخامسة: مرحلتنا المعاصرة، حيث يمثلها السيد السيستاني، وتبدأ هذه المرحلة مع نهاية فترة الحكم البعثي وقيام نظام 2003.
النقطة الثانية: رأيي في تكوين وصعود الحوزة الدينية في العراق في العصور المتأخرة، سواء أكانت تلك الحوزة نجفية أو كربلائية أو سامرائية (الفترة السامرائية هي مدة انتقال السيد محمد حسن الشيرازي إلى سامراء في عام 1875 إلى حين عودة الشيخ محمد تقي الشيرازي إلى كربلاء بعد وفاة السيد كاظم اليزدي عام 1919) … رأيي هو: أن الفترة الممتدة من سنة 1722، وهي لحظة نهاية الدولة الصفوية وسقوط عاصمتهم أصفهان بيد محمود الأفغاني، وانتقال علماء حوزة أصفهان إلى كربلاء بسبب ظروف الحرب وسوء الأحوال وسياسة القمع الافغانية، وحتى عام 1922 حين اعترض مراجع النجف على الاتفاقية العراقية / الإنجليزية، وتحريمهم المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي العراقي، ثم مغادرتهم العراق احتجاجاً على نفي الحكومة العراقية للشيخ مهدي الخالصي … إن هذه الفترة الواقعة بين هذين الزمنين (1722 - 1922) هي الفترة الحاسمة في تشكيل العراق دينيا كما نعرفه اليوم، وهي الفترة التي صعدت فيها الحوزة الى المكانة التي نعرفها لها اليوم، بكل ما تعني هذه المكانة من تطور فكري في الفقه وعلم أصوله، وتنامي دور الفقيه وولايته، وانتشار الطقوس الدينية وشعائرها، بل وتشيع القبائل العربية في الفرات الأوسط (اما تشيع قبائل الجنوب، وخصوصا تلك المحاذية للأهوار او التي تقع شرق دجلة فإن تشيعها اسبق تاريخيا ويعود الفضل فيه إلى حوزة شيراز وحكم المشعشعيين وحوزة الحويزة والدورق، وكان الدور الأبرز فيه لعلماء الحديث والأخبارية من البحرانيين والأحسائيين والبصريين)، وانتصار المدرسة الأصولية وتراجع المدرسة الأخبارية، وولادة المدرسة الشيخية، والحالة السياسة في التساكن والتصادم مع الدولة العثمانية، والغزل والجفاء مع الدولة القاجارية … الخ كل ذلك مرتبط بهذه الفترة.
النقطة الثالثة: لقد نقل أحمد الحسيني عن مقال سابق لي منشور في القناة كتبته بمناسبة ذكرى رحيل اية الله الخميني وتحدثت فيه عن عدة أمور تاريخية وفكرية مرتبطة بالخميني، كان منها موقف السيد السيستاني في كتابه الاجتهاد والتقليد، وقلت إن ما كتبه السيستاني في هذا الكتاب (وأقصد مبحث ولاية الفقيه) يكاد يكون مكرسا لنقد وتقويض ما ذهب إليه السيد الخميني، وأنه عارضه في أغلب ما قاله. لقد فهم الاستاذ أحمد الحسيني من قولي ذلك أن السيد السيستاني "معارض سياسي" للسيد الخميني. طبعا هذا ليس ما كنت اقصده وإنما أقصد انه اختلف مع آرائه الفكرية لا أنه عارضه في ممارسته السياسية. النقاش كان نظريا حول الأفكار وليس السياسات. ومع انني لا انفي ان يكون ذلك مقصودا ايضا للسيد السيستاني، ولكنني لا استطيع ان ادعيه ولا املك الدليل لإثباته، ولكن عند الحديث عن الاختلافات الفكرية يستخدم في اللغة المتداولة عادة قول إن (فلان عارض فلان) اي انه رد عليه ونقض رأيه.
النقطة الرابعة: في تقديري أن علاقة قم بالنجف لم تصل في أي وقت من الأوقات إلى مرحلة الصراع. نعم، يمكن أن نتحدث عن منافسة فقط، ولكن وصف هذه المنافسة بانها "صراع" فيه مبالغة بعض الشيء. وابرز الفترات التي تجلت فيها هذه المنافسة والركود في العلاقة بين الحوزتين في وقت سابق هي مرحلة انتقال بعض مراجع النجف إلى قم عند مغادرتهم العراق احتجاجاً على نفي الشيخ الخالصي، فقد كان استقبالهم باردا ولم يتم الترحيب بهم كثيرا. وهذه نقطة لم يتناولها الاستاذ احمد.
النقطة الخامسة: إن ظهور مرجع عراقي الجنسية، أو عراقي الهوى على الاقل، أمر متوقع جدا، خصوصا وأن هذه المسألة باتت في منتهى الحساسية بسبب ارتباطها بالأمن الوطني العراقي ومنزلة المرجعية في الدستور العراقي، هذا ناهيكم عن تنامي الوطنية العراقية التي تحسب النجف عاصمة التشيع العالمية روحيا وترى العراق والعراقيين أكثر الناس المعنيين بها. وفي ظل الدعوات لتطييف قانون الأحوال الشخصية يكون الموضوع أشد حساسية، ومدعاة لقلق أكبر، وهو اقحام المرجعية في أتون الخلافات السياسية ومخاوف ابتزازها من خلال فكرة (المرجع الأكثر تقليدا عند شيعة العراق). من هنا حذرت في مقالاتي النقدية لمشروع التطييف من خطورة هذه الفقرة فيه.
هناك نقاط أخرى يمكن إثارتها حول موضوع الحلقة وما جاء فيها ولكنني اكتفي حاليا بهذه التعليقات الخمس متمنيا للاخ الاستاذ أحمد الحسني مزيدا من الابداع والتميز