ستار كاووش
كان عليَّ الذهاب الى متحف لام الذي يقع على أطراف مدينة ليل، خرجتُ مبكراً في الصباح كي أستثمر كل وقتي، وركبت المترو الذي كان عليَّ أن أغيره بعد ست محطات، لأكمل طريقي بالباص الذي أوصلني الى منطقة فيلنوف داسك. وما أن ترجلتُ من الباص حتى واجهتني مقهى صغيرة مشرعة الأبواب، مليئة بعدد من الرجال المسنين الذين يعتمرون قبعات الكاب، وقد بدوا لي مثل فلاحين تقاعدوا منذ زمن طويل. خلف المقهى ظهر سلم حجري طويل ومنحرف قليلاً، أكملتُ درجاته نحو الأسفل، فإنفتحتْ أمامي منطقة زراعية واسعة، تتقدمها يافطة كبيرة إمتدَّتْ على مسافة عشرة أمتار تقريباً وتشير الى المتحف. إجتزتُ البوابة، فإنفرجتْ أمامي حديقة مترامية الأطراف. بضع خطوات داخل الحديقة كانت كافية لظهر المتحف منتصباً، كإنه صديق قديم بإنتظاري. وما أن إقربتُ من بناية المتحف حتى صارَ مشهد الممر بحجره الرمادي مع العشب الأخضر على الجانبين وبناية المتحف في المؤخرة بشكلها الهندسي ولونها المائل الى الأحمر، كأنه لوحة كبيرة للرسام موندريان. يالها من بداية للوصول الى واحد من أهم متاحف فرنسا. في الصالة الأولى استقفتني واحدة من اعمال موديلياني قبل ان يُعرف بأسلوبه الشهير، لوحة تعود الى بداياته وهي عبارة عن بورتريت لامرأة متجهمة وتصوب نظرها الى البعيد. أعمال بيكاسو التكعيبية تأخذ مداها الواسع هنا، صحبة أعمال صديقه العتيد جورج براك. تأملتُ أعمالهما معاً تذكرتُ مقولة براك (أنا وبيكاسو صنعنا التكعيبية كرجلان يتسلقان جبل بحبل واحد)، أما الفنان فريناند ليجيه، فهو من أكثر الفنانين الذين سحرتني أعمالهم هنا، حيث خطوطة السميكة وأشكاله الانبوبية التي كانت سابقة لعصرها وهي تضع أقدامها فى منطقة التجريد، وقد جمعَ في لوحته (الميكانيكي) الأسلوب الواقعي مع التكعيبية والتجريد، فكانت خلاصة لعصر كامل. كذلك هناك جداراً مخصصاً لأعمال الفنان يوجين ليروي، وخاصة رباعيته التي أطلق عليها تسمية (الفصول الأربعة) والتي رسمها بطريقة تجريدية وبألوان سميكة وُضعت بطبقات فوق بعضها. تجولتُ بين منحوتات من الحجر بهيئة أشكال غريبة، وأخرى من الخشب للفنان تَيّو فيسين، تشبه التعاويذ أو الطلاسم. يحتوي المتحف أيضاً على أكبر مجموعة من أعمال الفن الخام وخاصة أعمال الفنان جان دوبوفيه الذي استفاد من رسوم الاطفال ونزلاء المصحات النفسية، واستخدم خامات لم تكن متاحة في صناعة العمل الفني. وبين كل ذلك لا يمكن ان يخلو هذه المتحف من أعمال الفنانة الفرنسية سيرافين التي أعتبرها النسخة النسائية من فينسينت فان خوخ، حيث أعمالها الغرائبية والزهور التي رسمتها، والتي بدت كإنها جاءت من عالم بعيد وغامض. وهذه الفنانة كانت تعمل خادمة في أحد البيوت، ووجدت نفسها تميل الى الرسم وبدأت بعد سن الأربعين بجمع ما تحصل عليه من نقود قليلة وتشتري الألوان والكانفاس وترسم على أرض الغرفة دون مسند، حيث تعيش في عزلة ووحدة. وفي الصورة الوحيدة الموجودة لها، حين أرادت احدى المجلات تصويرها بعد اكتشاف أمر رسمها، كانت تنظر الى السقف، وحين سألتها المصورة عن سبب فعل ذلك، أجابتْ (أنا أنظر الى الملائكة، فهو يزوروني دائماً ليلاً أثناء الرسم).
تأسس متحف لام -والاسم هو إختصار ل (ليل آرت متروبول)- سنة ١٩٨٣ وهو يضم سبعة الاف عمل فني من القرن العشرين والواحد والعشرين، وتعود فكرته الى الأعمال المهمة التي جمعها روجيه دوتيلول (١٨٧٣-١٩٥٦) في بداية القرن العشرين، والذي يعتبر أول فرنسي إهتم بشكل كبير بالتكعيبية، وقد كان هائماً بأعمال سيزان، لكن بسبب تكاليفها الباهضة إتجه وقتها نحو صالات العروض الباريسية باحثاً عن أعمال الفنانين الشباب من الجيل اللاحق، وهكذا استطاع ان يجمع الكثير من لوحات بيكاسو وبراك وليجيه، ثم تعرف على موديلياني وجمع مجموعة كبيرة جداً من أعمال هذا الفنان. وهكذا انشغل سنوات طويلة بجمع نواة هذا المتحف العظيم. وحين جاءتْ فترة ما بين الحربين، حوَّلَ اهتمامه الى الفن الخام، وكانت هذه الانعطافة خطوة مهمة في تكوين المتحف والنظر الى الفن بطريقة مختلفة وجديدة. فحين ابتكر جان دوبوفيه مفهوم الفن الخام سنة ١٩٤٥، انتبه دوتيلول مباشرة الى هذا النوع من الفن الذي يحمل صياغات وتقنيات جديدة، لذا ضم الى مجموعته الكثير من اعمال دوبوفيه، وهذا ما جعله يسعى أكثر ويحث الخطى نحو اقتناء أعمال لم يفكر بها الآخرون كثيراً مثل أقنعة الكرنفالات ورسومات الأطفال والحرف اليدوية وغيرها الكثير. مع مرور الوقت حصل المتحف على الكثير من التبرعات من مجموعات خاصة تشمل الكثير من اللوحات والمنحوتات، لتكون في النهاية هذا الصرح الفني الذي يقول الكثير عن مكانة فرنسا فى صناعة الجمال وبناء المتاحف والحفاظ على الابداع الذي تركته أجيال مختلفة من الفنانين. هنا تجد حواراً جمالياً من نوع خاص بين الفن الخام والفن الحديث، حوار لا يكف عن طرح الكثير من الأسئلة التي تقول فى معظمها، علينا أن نُعيد النظر في طريقة رؤيتنا للأعمال الفنية.