TOP

جريدة المدى > عام > كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟

نشر في: 21 أغسطس, 2024: 12:36 ص

أندرو بونتزِنْ*
ترجمة: لطفية الدليمي

من الصعوبة بمكان ان نلجأ إلى مفردات قادرة على توصيف مدى اتساع هذا الكون: مئاتُ البلايين من النجوم في مجرّتنا، وفي الاقلّ هناك مليارات المجرّات في الكون. لكن بقدر ما يتعلق الامر بالكوسمولوجي(المختصّ بالفيزياء الكونية) فهناك أمرٌ آخر أبعد مدى وأكثر إثارة للتفكّر من الاكتفاء بتأمّل هذه الاعداد الهائلة من النجوم والمجرّات في الكون. يكمن هذا الأمر في التساؤل بشأن كيفية نشوء تلك النجوم والمجرّات خلال مدى زمني يقاربُ 13.8 بليون(مليار) سنة. هذه حقاً هي المغامرة الكونية الكبرى التي جرت وقائعها قبل نشوء التاريخ البشري الكلاسيكي المعروف بأطواره المعهودة. لنتأمّلْ في هذه المتسلسلة الشرطية من الوقائع: الحياة(البيولوجية) لا يمكنُ أن تتطوّر من غير وجود كوكب، والكواكب لا تتشكّلُ من غير نجوم، والنجوم تنشأ وسط مجرّات، والمجرّات لن تنشأ في غياب كونٍ داعم لها يُشترطُ فيه أن يكون ذا تكوين هيكلي عظيم التعقيد. أصولنا الاولى مكتوبة في كتاب الكون، وأفضلُ ما نستطيعُ تعلّمه هو كيفية قراءة محتوى هذا الكتاب الكوني.


بدا الأمر في زمن سابق (ابتداءً من عصر النهضة الاوربية وشيوع العقلانية والفلسفة الانسانية،المترجمة) كما لو أنّ الكون بكلّ تعقيده الهائل يمكن فهمه فهماً كاملاً عبر تطبيق عدد محدود من القوانين الفيزيائية الصارمة. وظّف نيوتن هذه الفكرة وصاغها في قانون رأى فيه القدرة على بيان كيفية سقوط التفّاح من أشجاره نحو الارض، وكيفية دوران الكواكب في مدارات كوكبية حول الشمس. أبان نيوتن أنّ السبب وراء هذه الظواهر قوّة واحدة هي الجاذبية Gravity. هذا النوع من التوحيد المتطرّف للظواهر الارضية والسماوية (الكونية) لم يزل شائعاً في تعليم الفيزياء الحديثة على مستوى المدارس الثانوية والجامعات: كلّ الاعداد الهائلة من الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية في الكون يُتوقّعُ منها الخضوع لذات المجموعة من القوانين(النيوتنية) الكلاسيكية. تقودنا معظم الشواهد إلى أنّ هذا الافتراض صحيحٌ وينطبق على الحالات الكلاسيكية المعروفة؛ لذا فإنّ النتيجة المنطقية التي سنقبلُها هي أنّ سعينا البشري لإكتمال فهمنا لهذه القوانين الكلاسيكية أمرٌ من شأنه بالضرورة أن يقودنا لحلّ كلّ المعضلات المتبقّية من غير حل حتى الآن فيما يخصُّ التاريخ الكوني.
لكن برغم هذا الجمال المفاهيمي للإفتراض السابق فإنّ الامر لا يعدو أن يكون مغالطة منطقية Logical Fallacy. حتى لو كان بوسعنا تخيّلُ إمكانية إكتشاف الانسانية يوماً ما "نظرية كلّ شيء Theory of Everything" التي تستطيعُ توحيد كلّ الاجسام والقوى المفردة في صياغة رياضياتية موحّدة فإنّ القدرة التفسيرية لهذه النظرية فيما يخصّ الكون ككينونة واحدة من المتوقّع أن تبقى هامشية. على امتداد القرن العشرين كله، وبرغم أنّ فيزياء الجسيمات كشفت عن الكثير من أسرار الذرات فقد كان واضحاً أنّ السلوك الفيزيائي الشامل الذي نختبره على المستوى الكبير Macro Level لا يمكن فهمه من خلال التركيز الحصري على الاجسام المفردة (بمعنى أنّ سلوك المنظومات الكبيرة لا يمكن دراسته بطريقة إختزالية عن طريق دراسة سلوك الاجسام المفردة المكوّنة لتلك المنظومة كلّاً على حدة، المترجمة).
تقدّمُ لنا الحشرات ذات السلوك الاجتماعي المميز على هذه الارض مثالاً مفيداً. من المعروف أنّ جيش النمل على سبيل المثال يتّخذ شكل سرب يبحث عن مستعمرات الفرائس التي سيفترسها النمل فيما بعد. عندما يشكّلُ النمل سرباً فإنّه يعمدُ إلى القيام بحركات غريبة مدهشة بقصد المشاركة وتكوين فعل جمعي يسعى لتطويع أجساد النمل من أجل تمهيد الطريق أمام السرب القادم، وقد يبلغ الامر أحياناً مبلغ أن يقيم بعض النمل في الجبهات المتقدّمة للسرب جسوراً لعبور النمل في المناطق غير الممهّدة أو الحاوية على عوائق.
هذا السلوك الجمعي للنمل قد يقودُ البشر إلى تصوّر مستعمرة للنمل يقودها عقلٌ مدبّرٌ يرسمُ ستراتيجياتها الساعية لبلوغ الفرائس بأكثر الطرق كفاءة؛ لكنّ الدراسات البحثية المعمّقة أثبتت عدم وجود مثل "صانع السياسات" هذا في مستعمرات النمل. يوجد أفرادٌ من النمل فحسب، يتبعون قواعد بسيطة لا تتغيّر من قبيل أن يعمل النمل على تشكيل جسر متى ما حصل ضغط متزايد من أفراد النمل تجاه مقدّمة السرب حتى يبلغ الضغط حداً محدّداً، حينها يفهم النمل في الطلائع المتقدّمة من السرب ضرورة بناء جسر من أجساد النمل لعبور عائق، ومتى ما عبر كلّ النمل في السرب يعمل بناة الجسر من النمل على تفكيكه!!. التعقيد الجلي في هذه العملية ينبعُ من حقيقة الاعداد الكبيرة التي تتبع هذه القواعد البسيطة، وهذا هو ما أشار إليه الفيزيائي فيليب أي. أندرسون Philip A. Anderson بتعبيره البلاغي الفخم " الكثرة تصنعُ الاختلاف More is Different".
النظام الشمسي- وهو النظام الذي يبدو التمثّل الاعظم للقدرة البشرية على التنبؤ بحركاته مثلما نفعل مع ساعة ميكانيكية- سنعجز عن تحديد مستقبله البعيد للسبب السابق في مثال مستعمرة النمل. عندما نتعاملُ مع مكوّنات النظام الشمسي كلّاً على حدة، وليكن كوكباً منفرداً؛ فأنّ هذا الكوكب سيكون له مداره المحدد حول الشمس(وهي الاخرى نجم منفرد بذاته)؛ لكنّ واقع الحال يخبرُنا بوجود كواكب كثيرة كلّ منها له تأثيره المباشر -مهما كان طفيفاً وغير منظور- على الكواكب الاخرى. ما يحصلُ مع تراكم الزمن أنّ سلسلة من هذه التغيّرات (التأثيرات) الصغيرة سينتجُ عنها تأثير كبير ربما لن يكون بوسعنا التنبؤ به بواسطة حساباتنا الكلاسيكية.
ربما تستطيع الحواسيب، وإلى حدود محسوبة محدّدة، أن تأخذ على عاتقها عبء النهوض بعبء هذه الحسابات عبر محاكاة هذه النتيجة الجمعية غير المتوقّعة بالاستعانة بقدرتها الفائقة على تجميع التأثيرات الصغيرة مستخدمة نمطاً من الحوسبة computing السريعة والموثوقة. تكمن المعضلة في مثل هذه المحاكاة الحاسوبية Computer Simulation أنّ نتائج عمليات المحاكاة المختلفة لا تتفق مع بعضها. تتنبّأ بعض هذه المحاكاة أنّ النظام الشمسي سيبقى مستقراً بغض النظر عن فعل التغيرات الصغيرة المستمرّة؛ في حين ترى نتائج محاكاة أخرى أنّ كوكب المشتري بعد بضعة بلايين من السنوات قد يتخذ مساراً يجعله يتصادم مع كوكب عطارد، أو حتى قد ينقذف بعيداً خارج المجموعة الشمسية نحو الفضاء العميق.
عمليات المحاكاة الحاسوبية للنظام الشمسي لا تتفق فيما بينها، فليس بمقدور محاكاة إحتسابية منفردة لوحدها التعاملُ بشكل كامل وتام مع كلّ المؤثرات؛ بل حتّى أنّ عدم الاتفاق بشأن قيمة المؤثرات الصغيرة في النظام الشمسي، وبصرف النظر كم يبلغ الاختلاف من ضآلة قد تبدو تافهة وغير مؤثرة؛ فإنّ هذا الاختلاف البسيط قد يقود إلى نتائج عظيمة الاختلاف. هذا المثال الكوني هو أحد التطبيقات العملية لظاهرة مهمّة تدعى الفوضى (الشواش) Chaos، وهي ظاهرة مدهشة ومثيرة للقلق في الوقت ذاته: مثيرة لأنّها تكشفُ لنا أنّ النظم الكوكبية يمكن أن تعرض سلوكاً أكثر غنى وإدهاشاً ممّا يفترضه قانون الجاذبية النيوتني البارد والمفتقد إلى حرارة الدهشة والانبهار. أما كونها باعثة على القلق فلأنّ النظام الشمسي عندما يكون نظاماً فوضوياً وغير قابل للتنبؤ الدقيق بمآله المستقبلي فستكون هذه الحقيقة كابحاً لكلّ جهودنا الحثيثة وفضولنا البشري في معرفة ما الذي يجري خارج حدود هذا النظام، وأعني بذلك الكون بأكمله. ستبدو دراسة الكون وفهمه محاولة أقرب للعبث غير المجدي وغير المنتج.
تفكّرْ ملياً في المجرّات الكونية. كلّ واحد منها هي في المعدّل تعادلُ عشرات ملايين الأضعاف من حيث سعتها بالمقارنة مع نظامنا الشمسي، وهي متباينة كثيراً بينها فيما يخصُّ الاشكال والالوان والحجوم. أيّةُ محاولة من جانبنا ككائنات بشرية لفهم الكيفية التي جعلت هذه المجرات على هذه الحالة من التباين فيما بينها تتطلبُ على الاقل فهماً مقبولاً لكيفية نشوء النجوم التي تتشكّلُ منها تلك المجرّات، فضلاً عن معرفة من أين جاءت تلك النجوم. هنا تنشأ المعضلة الفوضوية. إنّ تشكّل النجم عملية فوضوية حيث تتكاثفُ سحبٌ من الهيدروجين والهليوم ببطء فيما بينها تحت تأثير الجاذبية، وليس في حيازتنا اليوم حاسوب فائق القدرة (سوبر عملاق) يستطيعُ متابعة تطوّر كلّ ذرة من الذرات الـ 1057 (واحد وأمامه سبعة وخمسون صفراً!!) التي تكوّن النظام الشمسي لوحده. وحتى لو إفترضنا قدرة عُدّتنا الحاسوبية على النهوض بهذه المهمة العسيرة، وعلى إفتراض جدوى مثل هذه الحسابات فإنّ ظاهرة الفوضى ستعمل على تعظيم تأثير التغيرات الصغيرة على نحو حثيث يكبح قدرتنا على بلوغ نتائج محدّدة حاسمة. لو بقينا ملتزمين بصرامة قوانين الفيزياء الكلاسيكية عند دراستنا ومحاولتنا فهم الكون فهذه هي نهاية الطريق!! لن نبلغ نتيجة حاسمة أبداً.
نتناول الآن الحواسيب ذاتها وعمليات المحاكاة فيها. لو أردنا إتمام عملية محاكاة حاسوبية لنظامنا الشمسي أو لمجرّة فيتوجّبُ علينا التعاملُ مع أعداد هائلة من الجزيئات: نَصِفُ كيف تتحرّك كل جزيئة منها وهي في مجاميع كبيرة، وكيف تدفع جزيئة أخرى، وكيف تنتقل الطاقة بينها، وكيف تتفاعل كل جزيئة مع الضوء والاشعاع،،،إلخ. يتطلب هذا الفعل (الملحمي) منّا أن نكون خلاقين، ونُبدي قدرات بارعة في إيجاد طرق من شأنها وصفُ ماهية العديد من العمليات المختلفة. لا مفر في النهاية من إعتماد محاكاتنا الحاسوبية -بالضرورة - على حسابات تخمينية لخبراء متى ما تناولت المحاكاة الثقوب السوداء، والمجالات المغناطيسية، والاشعّة الكونية، فضلاً عن المفهوميْن اللذين لم نفهمهما فهماً مقبولاً حتى اليوم: المادة المظلمة Dark Matter، والطاقة المظلمة Dark Energy اللتان تبدوان وكأنهما تتحكّمان بالهيكل الكوني برمّته.
تبدو المجرّات في التحليل المعمّق أدنى من آلات، وأقرب إلى حيوانات (بمعنى كائنات بيولوجية واعية شديدة التعقيد، المترجمة)، عصية على الفهم العميق والمفصّل، تستحقُّ الدراسة المكثّفة التي تأتي دوماً بعوائد ذهنية ثرية؛ لكن في كلّ الاحوال لا يمكن التنبؤ بسلوكها وتطوّرها اللاحق إلا على نحو جزئي ضيّق. إنّ القبول بهذه الحقيقة يتطلّبُ إنزياحاً في منظورنا الكوني ورؤيتنا لطبيعة النظرية الفيزيائية؛ لكنّ هذا الانزياح المفاهيمي، ومهما بدا صعباً وقاسياً فإنّه سيجعلُ رؤيتنا الكونية أكثر غنى وثراءً من ذي قبلُ.

  • أندرو بونتزِن Andrew Pontzen: بروفسور الفيزياء الكونية (الكوسمولوجيا) في الكلية الجامعة University College بلندن. مساهم نشط وكاتب مقالات علمية في مجلات علمية عديدة منها New Scientist. آخر كتبه المنشورة هو The Universe in a Box: A New Cosmic History، وقد نُشِر عام 2024.
    -عن الغارديان

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه

الكاتبة زادي سميث تتساءل في روايتها (المحتال): لماذا يجب ان نتحدث عن هويتنا الخاصة؟

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟

مقالات ذات صلة

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟
عام

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟

أندرو بونتزِنْ*ترجمة: لطفية الدليمي من الصعوبة بمكان ان نلجأ إلى مفردات قادرة على توصيف مدى اتساع هذا الكون: مئاتُ البلايين من النجوم في مجرّتنا، وفي الاقلّ هناك مليارات المجرّات في الكون. لكن بقدر ما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram