علي المدن
في عام ١٩٢٤ اجرى محمد مهدي القزويني البصري حوارا مع جريدة الأوقاف البصرية فانتقد في الحوار طقوس التطبير، وفي عام ١٩٢٦ سئل محسن الامين العاملي عن طقوس التطبير والتشبيه وما يرافقها من أفعال فافتى بالتحريم ونشرت فتواه في جريدة العهد الجديد البيروتية. تعرض الرجلان بسبب ذلك إلى هجمة شرسة جدا، فاضطر القزويني بعدها إلى كتابة رسالة صغيرة تحت عنوان (صولة الحق على جولة الباطل) (١٩٢٦)، وكتب محسن الأمين رسالة اخرى اسمها (التنزيه لاعمال التشبيه) (١٩٢٨)، ثم توالت الردود تأييدا لهما او ردا عليها، وشاركت في ذلك المع اسماء فقهاء النجف كمحمد الحسين كاشف الغطاء ومرتضى ال ياسين ومحمد حسين المظفر ومحمد جواد الحمامي ومحمد جواد البلاغي وعبدالله المامقاني وعبدالحسين صادق العاملي وعبدالمهدي المظفر (وكل هؤلاء كتبوا ضد القزويني والأمين)، فضلا عن بيانات التنديد التي اصدرها امثال حسين النائيني (صاحب كتاب تنزيه الملة) وعبدالحسين شرف الدين وغيرهما، كما أيد الامين كلٌّ من أبو الحسن الاصفهاني وجعفر البديري وحسين الحسيني البعلبكي وعبدالمهدي الحجار والشيخ علي القمي ومحسن شرارة وغيرهم. تحولت القضية إلى أكبر معركة دينية في القرن العشرين، وقد جمع الشيخ محمد الحسون هذه الردود في موسوعة ضخمة مكونة من عشر مجلدات طبعت تحت عنوان (رسائل الشعائر الحسينية) ضمت (٦٦) رسالة من أصل (٧٠) رسالة، استغرق العمل عليها (على جمع الموسوعة) عشرين عاما من عمر الحسون!!!
كان القزويني يعيش متنقلا بين الكويت والبصرة ومن هناك تأثر بمناخ الثقافة السائدة في تلك المنطقة، وهي ثقافة متأثرة بالأفكار السلفية القادمة من نجد من جهة، مع أفكار مدنية حديثة توفرها البصرة كمدينة بحرية تستقبل ثقافات متنوعة. أما محسن الأمين فهو يعيش في الشام، ويعرف أجواء دمشق وبيروت، وكان من الطبيعي أن يستنكر أفعال التطبير والتشبيه ومشاعل النيران وغيرها.
بعد مرور قرن على بداية هذه المعركة (من ١٩٢٤ إلى ٢٠٢٤) تبدو الأمور اليوم أسوأ بكثير جدا مما كان يتخيل القزويني والأمين، وقد ذهبت كل تلك النقاشات أدراج الرياح، حتى لم يعد هناك من يتذكرها!!! وصرنا نعيش في أجواء أكثر قمعا وتشكيكا بكل رأي مخالف (سئل المرجع المعاصر عن الطقوس في محرم وصفر وغيرها من المناسبات الدينية فلم يستطع القول أكثر من الدعوة إلى السير على اثر الأساليب المتعارفة عند السلف الصالح من السابقين) … والسابقون المشار إليهم هم نفسهم الذين انتقدهم القزويني والأمين!! ولكن ربما هذا أكثر ما يستطيع المرجع المعاصر قوله في ظل الحماسة الدينية الطقوسية الجارفة هذه السنوات …
هذه الطقوس هي التي تحدث عنها العلامة الدكتور علي الوردي (أحد أكبر العقول التنويرية في العراق) حين درس قضية الشيعة والسنة في كتابه المهم جدا "وعاظ السلاطين" فقال إن التشيع اليوم فسد بدخوله في السياسة، وإنه خسر بذلك طابعه الثوري المكرس للاهتمام بمبادئ العدالة الاجتماعية. ثم كتب: (إن التشيع الحاضر مملوء بالخرافات، وهنا مكمن الخطر. والخرافات الشيعية هي من ذلك النوع الذي يطلق عليه علماء الاجتماع (الأساطير الاجتماعية). فهي خرفات كان لها دور فعال في إثارة الفتن والثورات في العهود الغابرة. إن التفكير المنطقي أمين لا خطر منه. فهو بارد ولا يثير الاشجان ولا يحرك القلوب. إن الخطر كل الخطر من الخرافة التي يؤمن بها المجتمع ويبذل جهده في سبيل تحقيقها. والمنطق الحديث يدرس العقيدة الدينية على أساس ما فيها من تماسك منطقي أو تفكير سليم. فالعقائد الدينية، بوجه عام، ظواهر نفسية واجتماعية أكثر مما هي عقلية منطقية). ولقد لام الوردي علماء الدين الشيعة واتهمهم بالتفلسف والتمنطق بدون فائدة، وانهم يتفلسفون في الباطن فقط فيما هم تقليديون في الظاهر، وهذا كرس ما اسماه "العبودية الفكرية" في أذهان عامة الشيعة.
لقد ألهمت أعمال الوردي كلا من شريعتي ومطهري في إيران، فكتبا مراجعات نقدية لتلك الطقوس، وكررا ما قاله الوردي، مع الإشارة له أو بدونها، ولكن من المفارقات أن يكون القزويني، أحد أكبر المتضررين من المطالبة باصلاح الطقوس الدينية، من أول الناقدين للوردي!!! وكتب كتابا في الرد على كتابه "وعاظ السلاطين".
لقد حلل البرت حوراني الفكر العربي زمن النهضة وتعرض لجمال الدين الأفغاني. وكان من آذكى الملاحظات التي قالها عنه إن الأفغاني يدرك تخلف المسلمين في عصره، كما يعرف أن الغرب متقدم على المسلمين تقنيا وعلميا، ولكنه مع ذلك دعى، وهو الإصلاحي الكبير، إلى العودة للإسلام. أليست هذه مفارقة؟! ماذا كان يقصد الأفغاني بالإسلام الذي يدعو إليه؟ هنا تأتي ملاحظة حوراني حين يقول إن الأفغاني لم يدع إلى الإسلام كعقيدة، أو على الأقل ليس هذا ما كان يستحوذ على اهتمامه، بل كان يدعو إلى الإسلام كمدنية. أي الإسلام كعامل رقي وتهذيب مدني، وليس كمجموعة عقائد يتعصب لها المرء كمتدين. هذا ما يعتقده حوراني عن معنى دعوة الأفغاني للإسلام، وهي ملاحظة سنجد ما يدعمها حين نتابع الموضوع مع محمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا، اللذان سيتحدثان بتفصيل أكبر عن المدنية الإسلامية، بل وسيفتح هذا الباب شهية أخرين للكتابة في الموضوع ذاته (في العراق انخرط في ذلك محمد الحسين كاشف الغطاء - الناقد الآخر لدعوة الأمين الإصلاحية! - وهبة الدين الشهرستاني وغيرهما).
ليس مهما لنا الدخول في نقاش حول صحة وفاعلية فكرة الإسلام كمدنية بالقياس إلى فكرة الإسلام كعقيدة، إذ يبدو أن النقاش في كلا الطرحين لم يعد مؤثرا كثيرا في ظل تقدم فكرة الإسلام كطقوس، ولكن الشيء المؤكد أن هناك فرقا عظيما بين الطرحين، وأنه ليس من السهل توقع التغيير الاصلاحي، بالمعنى المدني للاصلاح؛ أي التهذيب الحضري والرقي الاجتماعي وكل ما يرتبط بهما من ثقافة علمية وازدهار مادي عمراني، من التفكير بالاسلام العقائدي، ليس لأن العقيدة الإسلام لا تلائم هذا النوع من الإصلاح، بل لأن الاستغراق في هذا النوع من الإسلام لا يفسح المجال لظهور غيره، او الانشغال بما عداه.
في مرحلتنا الراهنة بتنا نتحسر على الإسلام كعقيدة، ناهيكم عن الإسلام كمدنية، لأن الإسلام كطقوس يتقدم ويزدهر أسرع من كل إسلام آخر