ريسان الخزعلي
(1)
يبدو أن أخبار رحيل الشعراء، توقظ ُ فينا إحساسا ً مضاعفا ً لتقليب رفوف مكتباتنا المُزاحمة بالتراكم، لعلّنا نعثر على بعض ظلال، غير تلك َ التي في الذاكرة. لعلّنا نعثر على الصوت المتموّج الساكن في حشرجة اهتزاز حروف الكتب. وهكذا، طالعتني مجموعة (مدن أخرى) للشاعر الراحل / مخلص خليل / نافضة ً بين أصابعي واستطالات عيوني غبار الزمن ؛ الزمن الذي باعد بين مشتركات ٍ كنّا نراها في النبض قبل الابتسامات والمصافحات . الزمن الذي تكلّس (هنا) ، وفاض َ (هناك) في المنافي .
مدن أخرى، مجموعة صادرة عام 1982 –منشورات دار العودة ، واتّحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين فرع لبنان. وهذه المجموعة سبقتها مجموعتان لم نتوافر عليهما: رسائل أوانيس، هجرات أولى، وكذلك ماتلاهما.
المجموعة تضم قصائد مكتوبة بين عامي 80 - 1981 عدا قصيدة واحدة مكتوبة عام 1979. والمساحة الشعرية فيها منجّمة بالمدن العراقية، إذن هي قصائد تخاطرات ، قصائد منفى استعاديّة – إن صح َّ تقديري لموعد مغادرته الإضطرارية - عن هذه المدن، وقد حملت القصائد أسماءها : المدينة (ت) والمقصود بها مدينته تكريت، ديانا، بابل، بغداد، القوش، راوندوز، تلكيف، البتّاوين، الرصافة، خانقين، بدرة، المدينه (هاء) والمقصود بها هيت وقد أهداها تأكيدا ً إلى المبدع / إبراهيم أحمد / .
إن َّ وجود المدن في شعر/ مخلص خليل / بمثل هذه الحفاوة، وكأنّه ُ يُرتّب ُ أطلسا ً، يُشير إلى حالة ٍ من الضيق المكاني، حالة ٍ من الحصار، ولذلك تراه يبحث عن (مدن أخرى).
ومن الوجع، أن يُغادر مدنَه ُ والمدن الأخرى على مرأى من الفجيعة ، وقبل أن تكتمل الصبوات.
في قصيدته عن مدينته ِ تكريت (شاهدة للمدينة ت). .، كان الشاعر رائيا ً، حادسا ً لما سيحصل، تاركا ً وصيّته ُ لإمّه ِ في نهاي القصيدة :
اسبقيني
إلى الهاوية
واطلقي زنبقي ليُضيء َ
أنا منصت ٌ مثل َ صارية ٍ
قرب َ شاهدة ٍ لقرون ِ الغبار ِ
التي اجتمعت ْ فوق َ عشْبك ِ،
أنجو بكِ الآن َ وحدي
وأُدخل ُ عطرك ِ في الامتحان.
…………-،
ثم ّ قولوا لأمّي، لماذا أصابت ْ رؤاك ِ هدوئي؟
لماذا تَخَيّرتني كي أكون َ الوحيد َ
مصابا ً بأسرارها في لجوئي.
وفي قصيدة (المحطة الغربيّة 2) يكون صوت فجيعة المغادرة هو الأعلى في هذه المواجهة الوجودية، لقد اتكأَ الشاعر على ذاته في محاولة ٍ للتطمين :
كلُّهم غادروني، فجمّعت ُ أشواقهم. . وحقائبهم. . كلُّهم غادروا، غير َ
أنّي اتكأت ُ وليس سواي َ هنا من نزيل.
إن َّ الشاعر / مخلص خليل / كثير الحدوس في مجموعته ِ هذه – مدن أخرى، كثير الإنصات إلى ذاكرته، والتعليل كامن في تكوينه الفكري / الحياتي، وها هو في عام 1981 يستعيد مشهدا ً في قصيدته (مشهد من عام 1970). .:
ولم نجتزىء طعنة ً للغريم ِ كما نتجزأُ
آب َ الغريم ُ بماضيه ِ، آب َ القتيل ُ إلى قلبه ِ
وسعى جُندنُا
بين َ هذا التوجّس ِ والمقصلة .
(2)
رغم أن َّ إشاراتي هذه أقرب ُ إلى الاستذكار وبعض الرثاء ، ولا بد َّ أن تكون هكذا، لذا فإن َّ المكاشفات الفنيّة عن شعريّة الشاعر- وهي شعرية لا يدركها النقصان - ستغيب هنا تحت ضغط الرجاء الروحي / النفسي. ولكن سأُشير فقط إلى الظاهرة العروضية / الموسيقية في مجموعة (مدن أخرى).
إن ّ جميع َ قصائدها، قد كُتبت على بحري ّ (المتدارك والمتقارب) ونموذجها كما جاء في الاستشهادات السابقة، عدا قصيدة واحدة كُتبت على البحر الكامل. وأرى أن َّ الشاعر أراد أن تكون المدن على إيقاع ٍ واحد ٍ ، وكأنّها قصيدة واحدة .
وهذا مقطع الاستهلال من قصيدة (بابل) – البحر الكامل . .:
ومض ٌ ويرشح ُ في إنائي نيزك ٌ من آخر ِ الصبوات ِ،
تعدو ومضة ٌ وأغارُ. .،
لم يبق َ لها غير ُ الوسادة ِ في التراب ِ
وباب ُ قنطرة ٍ وتُفضي نحو َ بيت ِ حطامنا. ..
لقد غادر الشاعر مدنَه ُ، مدن المجموعة ومدن المنفى ، واكتفينا بالتلفّت . ..
مخلص خليل.. يُغادر المدن كلّها
نشر في: 26 أغسطس, 2024: 12:24 ص