TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

نشر في: 28 أغسطس, 2024: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

" ثمة قليل من الاغريق في سان بطرسبورغ "
جوزيف برودسكي
كثيراً ما أسأل نفسي: أيمكن أنْ يكون الشاعر مؤرخاً، أو كاتباً لسيرة مدينته؟ فأجيبُ: أنْ نعمْ. ولعلي الى الثانية أقربَ، فأنا ممسوس بثنائية المكان وتحولاته، لذا يمكنني القول بأنني مؤرخٌ وكاتب سيرة للمكان الذي ولدتُ ومازلت فيه منذ ثلاثة أرباع القرن تقريباً، وإذا كنت الشاهد الأول والاخير على تحولاته فقد كنت الأكثر حزناً وفجيعة به، ولأنه كذلك أراني مأخوذاً اليه وذاهباً فيه، من أول الصحو حتى آخر الحلم، غير محتفل به، ولا مستقبحاً ما آل اليه، وسأفتح كتابه كما دُوّن أول مرة، قبل أكثر من قرن، ولن أزيده حرفاً واحداً.
لئن اختلف المؤرخون في تحديد موقع البصرة القديمة وذهبوا في ذلك مذاهب شتّى، فمن قائل بأنَّ موقعها هو الكائن بين قرية سيحان وكوت الزين، ولهم في ذلك حُججهم ووثائقهم، ومن يقول بأنَّها في الموقع الذي بين الزبير والبصرة القديمة(الآن) بينما يزعم آخرون بأنَّ الأرض المحصورة بين نهر معقل ومنطقة شمال العشار هي ما سميّ وعرف بذلك.. وقد يصحُّ ما تحدّث به المؤرخ يوسف العلي، رحمه الله، والذي منه بأنَّ قرية السرّاجي وما جاورها قد تكون جزءاً من البصرة القديمة أيضاً، إذ أنَّ بعض القراءات تشير الى ذلك، فارتفاع الأرض ووجود الاسوار والمقابر والاضرحة وصلاح الناس وبقاؤهم على الأصيل من العقائد إضافة الى أسماء الأنهار والقرى وتواترها في الكتب والتواريخ والخطط تعطينا أكثر من دليل على قدم المنطقة وعدم استبعاد كونها كذلك، وهكذا سأكون مولود الأرض العظيمة، وحبة رملتها، وقطرة مائها الأولى.
ومثلما يفعل الانسان لعبته الاثيرة، تلعب المدن لعبة الحضور والغياب، فما أنْ نمسك بخيط معلومة حتى يبني البعضُ عليها شيئاً من حقيقة ما، نضيفها الى رصيد معلوماتنا، لنجعل من آرائنا وأفكارنا مدناً وحواضر واشياءَ، قبل أنْ تفاجئنا معلومة أخرى، أو اكتشاف آخر، يعزز ما ذهبنا اليه، أو يزعزع ما توقفنا عنده.
ليست المدن في الذاكرة أكثر من شخوص وكلمات وأنهار وأسوار حين يستعصي حضورها على الأرض، أو يندر وجودها في الخرائط، ومثلما شيّدَ صاحب مئة عام من العزلة قرية ماكاندو يمكننا تشييد ما نتصوره من القرى والمدن، لكننا لن نحتفظ بها طويلاً فـ (ما تبنيه اليوم قد ترقص في خرائبه غداً) بحسب تعبير رينه شار. أنا أنشيئ مدينةً في ذاكرتي، لا افترضها أبداً، ولا أصنعها ببعض حجارتها التي تساقطت هنا وهناك، فالكلمات والحروف في بعض قراءاتنا أحجار صغيرة مفتتة دخلت دهليز الزمان يوما لتكمن فيه، ثم لنجلوها نحن فيما بعد، ونشكل منها مدنا، ومحال تجارية، وأزقة، ونخلق لها أناساً، نستعير حياتهم، وثيابهم، ومن ثم نقول بألسنتهم أشياء واشياء، فيقوم من نثار الرؤى والكلمات تلك ما سنصبح أساراه ذات يوم، هل نستحضر السيد رولان بارت في بعض قراءاته السيميائية للمكان.
يذكر البلاذري(ت- 279 هـ) في فتوحه مع ما يذكر من أنهار البصرة نهر عبد الليان، وهذه قرية قديمة من قرى ابي الخصيب، ماتزال قائمة بالاسم ذاته، بأنهارها وأراضيها، ولا تبعد عن السراجي أكثر من 2 كلم وكذلك يذكر نهر أميّتان، أو ميتان، وهذه قرية مازالت قائمة ايضاً، وهي جزء من قرية السراجي، ويقول صاحب (اللطائف السنية في شرح المقامات الحريرية) مخطوط باش أعيان برقم أ- 173 بأنَّ الحريري، صاحب المقامات ولد في(444 هـ) ينسب الى مهنة والده تاجر حرير، في البصرة، وليس الى قرية حرير التي يُنسب إليها أبو زيد السَّروجي، وهي قرية معروفة. هناك قرية أخرى قريبة من سروج(التي لا استبعد أن تكون السرّاجي نفسها بتحريف ما) تدعى مناوي لِجَمْ، وإذا علمنا بأنَّ السرّاج هو صانع السروج، فيمكننا القول بأنَّ قرية (مناوي لجم) هي قرية صانع الُّلجُم(جمع لِجام) وهكذا، سيكون سكنُ صانع السروح قرب صانع اللجم. لأنَّ رولان بارت سيعلمنا بأنَّ الأسطورة هي منظومة اتصال، وهي رسالة وكلام.
في ولاية حمدي باشا سنة 1898م شُيّدَ، ومن الخشب جسر السراجي، وساهم الملاكون في تكلفته، الى جانب البلدية كما هو عند (حامد البازي) الذي يقول: ونهر السراجي الكبير متصل الى حد النخيل، وعليه نحو ثلاثة آلاف جريب ممسوحة، و أربعة آلاف وخمسمائة جريب غير ممسوحة، وقرية السراجي من أكبر المقاطعات في البصرة، فيها مسجد قديم عليه منارة طويلة، منقّشة بالفسيفساء والقاشان(هُدمت سنة 2023) لا توجد في البصرة على عِظمها، سوى منارة أخرى تشبهها في محلة المشراق. وفيها قصرٌ عظيم، هو أجمل قصور البصرة اليوم، أمر ببنائه المرحوم عبد الوهاب باشا القرطاس، خصّيصاً لقرينته، من مُلكها الآيل لها من والدها المرحوم يوسف باشا بن قاسم الزهير، بحسب صاحب (التحفة النبهانية) محمد النبهاني (ت 1394هـ). ويذكر باش أعيان في موسوعته بأنَّ الجسر الخشبي هذا كان يسمح لمرور السفن والمهيلات المحملة بالتمر والفاكهة والخضار تحته.
والسرّاجي بتشديد الراء اسم نهر من أنهار البصرة الجنوبية، وهو غاية في العمارة، وفيه موضع اسمه خريبط، يُضرب المثل به لكثرة فاكهته (زاد المسافر للشيح فتح الله الكعبي- 1667م) وقيل إنها نسبة الى رجل كان يعمل في صناعة السُّروج، أو نسبة لرجل اسمه(سُرَيج)كان حداداً يعمل السيوف، واليه تُنسب السيوف السُّرَيجيَة. وسَروُج من قرى البصرة تعرف الآن بالسَّرّاجي، سميت بذلك لكثرة العلماء والزهاد، الذين هم سُرُجُها، والشيخان عبد العزيز المَرجان ونصْر السلمان هما سِراجا القرية والمسجد معاً (موسوعة الشيخ باش أعيان). ويعدد الرحالة نيبور الذي زار البصرة في 1765م أبواب البصرة فيقول:" للبصرة خمسة أبواب هي: باب الرِّباط، وباب بغداد، وباب الزبير، وباب السّراجي، وباب المجموعة".
ويقول أبي عبد العزيز(1911-1978م) بأنَّ الجسر الحديدي الذي أقيم على نهر السراجي في عشرينات القرن الماضي قد اكتمل بناؤه على اليابسة، بأرضه وسقفه والممرين على جانبيه، والذين شاهدوه بحجمه وارتفاعه كانوا يعبّرون عن استغرابهم، لطريقة انشائه، وكيف سيتسنى للعاملين عليه نصبه على النهر، في الموضع المخصص له. لكنَّ الانجليز سيّروه على دواليب، فسار، ثم وُضِع في الموضع الذي أرادوه له، فأزداد الناس عَجباً.
لم تعد السَّرّاجي (القرية) قريةً، هي اليوم تدعى منطقة، ولا الجسر ظلَّ قائماً، فقد استبدلَ بآخرَ من صنع عراقيين، غير أمناء، كذلك النهرُ صارَ مجرىً صغيراً لتصريف المياه الخفيفة والثقيلة لمئات البيوت التي أنشئت على أفرعه، ولم تعد القوارب والمهيلات تعبره الى شط العرب، هي الأخرى تفككت قريباً منه، أما أنا فمازلت هنا، أنتمي للقرية التي كانت، وأعبر الجسرَ الى المقهى، وأندبُ حظَّ النهر الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram