TOP

جريدة المدى > عام > التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي

نشر في: 1 سبتمبر, 2024: 12:04 ص

د. نادية هناوي
القسم الأول
يذهب ستيفن كايف وكنتا ديهال في تحريرهما كتاب(تخيل الذكاء الاصطناعي: كيف يرى العالم الآلات الذكية؟) 2023 إلى أن مفردة(ذكاء) سردية، ما يزال العلم إلى الآن لم يثبت حقيقتها الدالة بشكل علمي على أجهزة موصوفة فعلا بالذكاء، إنما المسالة هي في المتخيل الذي تشكل وانتشر بشكل مذهل وتغلغل في حياتنا اليومية عبر الهواتف الذكية والخدمات عبر الانترنت والمنصات والتطبيقات الافتراضية، وكل ذلك جعل الذكاء الاصطناعي سردية لوحده. ويؤكد المحرران أنه سواء أ كانت هذه السردية متخيلة أم واقعية، فإنها بالمجموع تدعم استقلال المجتمعات في استعمال الذكاء الاصطناعي وتنبذ صور التبعية وتسعى إلى إزالة الفوارق بين "المتقدم" و" المتخلف" من خلال الإفادة مما يصدره الغرب من تقنيات ذكية وتطويعها لأغراض لم يتخيلها المبدعون الأصليون أو أنهم أهملوها أو استبعدوها. وهذا ما نراه أمرًا طبيعيًا؛ أولًا لأن للعمق التاريخي لمجتمع ما دورًا في تشكل الرؤى حول المستحدثات الثقافية أو التقنية، وثانيًا لأن الغرب ما بعد الصناعي لا ينفك يسعى إلى إدامة هيمنته على العالم بدءا من استعباد الشعوب الضعيفة وممارسة التفرقة العرقية والطبقية في حقها ومرورًا باحتكار التقدم العلمي والتكنولوجي وانتهاءً برسملة الاقتصاد العالمي وتحويل الدول إلى سوق استهلاكية كبيرة لمنتجاته.
وللأدب الغربي حضور جلي في هذا المسعى ما بعد الاستعماري، وبخاصة في موضوعة الخيال العلمي، ليكون العنصر الأبيض في الغالب هو المتقدم والمالك للسر، وبيده مستقبل البشرية. وخير مثال على ذلك روايات دان براون، ومنها رواية(الأصل) وتدور أحداثها حول فكرة أن العلم نقيض الإيمان، وتتنبأ بأن عصرًا جديدًا سيشهده العالم فيه تستمر الهيمنة الغربية على العالم ويبقى الشرق خاضعا تابعا متأخرا. وهو ما يتضح في المقارنة المناطقية التي يجريها السارد بين دبي الساحرة بناطحات السحاب، والشارقة المحافظة والمعروفة بكثرة المساجد.
وبطل الرواية شاب اسمه ادموند كيرش متخصص في عالم الكومبيوتر ونظرية الألعاب والنمذجة الحاسوبية لا يؤمن بالدين، يتحدى رجالًا مسنين يمثلون أديان العالم ولا يؤمنون بالعلم، هم: الأسقف انطونيو فالدسبينو والسيد الفضل والحاخام كوفيس، يجمعهم ما يسمى برلمان أديان العالم وتدور بينهم جدالات فلسفية حول أصل الوجود: من أين أتينا والى أين نحن ذاهبون؟. وكان لتأكيد المؤلف في الجملة الاستهلالية التي بها افتتحت الرواية - ومفادها أن الأحداث والأمكنة والمنظمات الدينية كلها حقيقية- أن ساهم في جعل البداية غير مألوفة ثم تتصاعد اللامألوفية تدريجيا وتبلغ وتيرة الصراع الذروة بالاكتشاف المنتظر الذي فيه يعلن كيرش عن أمر عجيب سيهز العالم. فيسعى رجال الدين إلى منعه من القيام بذلك بشتى الطرق، ولكن كيرش يصر على إخبار العالم به، وتتم التهيئة الإعلامية للبث المباشر وتوضع منصات وشاشات خاصة لنقل الخبر عبر الوسائط الافتراضية. وما أن تأتي اللحظة الحاسمة التي فيها يعلن كيرش الخبر حتى تستجد ظروف طارئة تكسر أفق التوقع فيختفي كيرش بشكل مفاجئ ويتم الإعلان عن وفاته الغامضة ولكن المفارقة انه كان قد أعد العدة لهذا الحال فقد اخترع كومبيوترا يعمل بميكانيك الكم ويقدر على إنتاج سلالة جديدة من الآلات/ الروبوتات، سماه "أي وايف" ومنه صَنَعَ رجالا آليين يتولون المهمة في حالة غيابه أو اغتياله. وبالفعل يؤدي الروبوت الأنثى مارتن دور البطولة وكان قد تلقن بملايين البيانات ثم يأتي دور روبوتات أخرى مثل وينستون وتشرشل ولانغدون. ولا تخفى ما لأسماء الروبوتات من دلالة سيميائية مفادها أن الغرب الاستعماري الذي كان استيطانيا تمثله شخصية وينستون تشرشل، صار يمثله رقميا الروبوت تشرشل.
وبطريقة فنتازية يعود كيرش مجددا إلى ساحة الأحداث ويتبين انه باختفائه ثم ظهوره يكون قد أكد اكتشافه العجيب وحل لغز الوجود وفك شفرته لكن بطريقة تبدو متناقضة؛ فالتكنولوجيا ممثلة بالروبوت لانغدون سيكون لها المستقبل وفي الآن نفسه يحصل زلزال مفاجئ يهز الأرض من تحت أقدام هذا الروبوت. وهنا تنتهي الرواية وقد اقتحم السارد العليم الأحداث قائلا:(كما لو أن الفكر الديني تجاوز للتو أبعد نقطة في مداره وبدأ الآن يدور بشكل عكسي بعد أن تعب من رحلته الطويلة وقرر أخيرا العودة إلى دياره)
وعلى هذا المنوال تكون للمتخيلات السردية أدوار ثقافية في بث الأفكار وترسيخ الإيديولوجيات بوصف السرد هو الحياة أو بوصفه(هو شفرة النظام الذي بموجبه تعمل البشرية). وعلى الرغم من أن التقدم في ابتكارات الحوسبة والذكاء الاصطناعي أكثر قوة وضجة في مجالات السياسة والصناعة والاقتصاد، فإن السرد استطاع أن يشكل حول تلك الابتكارات متخيلات خاصة ثقافية وعلمية.
ومثلما وجدنا في رواية(الأصل) النظرة المنغلقة التي فيها الغرب هو المهيمن والمتعالي والمتفوق، كذلك نلمس هذا الأمر من ناحية الأغراض والتوجهات وطبيعة الاستكتاب سواء في الدراسات التي كتبها باحثون غربيون أو التي ساهموا في كتابتها. ومن ذلك مسألة التمييز اللغوي للغرب الناطق بالانجليزية. إذ من اللافت للنظر تركيز محرري القسم الأول من المقدمة والمعنون(حقائق وأساطير) على تأكيد فكرة مفادها أن الناطقين باللغة الانجليزية هيمنوا على تطوير الذكاء الاصطناعي وتشكيل سرديته، وأن صور هذه الهيمنة تتنوع بحسب طبيعة الاستراتيجيات المتبعة في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وعلى الرغم من ذلك، فإن تلك الاستراتيجيات تظل دائرة في إطار الفضاء الذي شكلته افتراضات الغرب ما بعد الصناعي ومخاوفه من أن يكون التنوع في الآراء حول ما ينبغي أن يكونه الذكاء الاصطناعي سببا في فشل جهود فهمه وتنظيم استخداماته، ذلك أن تلك الآراء قد تناسب ثقافة معينة ولا تناسب حساسية ثقافة أخرى أو أنها تتعارض والتقاليد السائدة فيها.
وحدد ستيفن كايف وكنتا ديهال منهجية الكتاب؛ وشرحا كيف بدأت فكرته وما الهدف منه ولماذا هذا الاهتمام بالثقافات في مناطق العالم المختلفة وما فوائد الذكاء الاصطناعي وما مخاطره، ومما قالاه:(عملنا على تنظيم سلسلة من عشرين ورشة تعمل حول العالم بين الأعوام 12018 و2021 وأقمنا شبكة دولية من الخبراء في تمثيلات الذكاء الاصطناعي خارج نطاق الغرب الناطق بالانجليزية) وطبّق كل باحث خبرته على سردية الذكاء الاصطناعي ضمن الثقافة أو المنطقة التي ينتمي إليها من دون تفريق بين أن تكون أدبية كأساطير أو قصص أو حكايات أو غير أدبية كوثائق سياسية ودعايات حكومية. فجميعها يُنظر إليها كـ(متخيل اجتماعي-تقني Sociotechnical Imaginaries) منها تتشكل التصورات العامة للذكاء الاصطناعي وتتحدد اتجاهات تطوره التكنولوجي.
وبعد ذلك فصَّلا في الأسباب التي دعت إلى اختيار مناطق معينة دون غيرها، وأكدا أن من الاستحالة القيام بمسح شامل لهذه السردية، يغطي المناطق والثقافات كافة. ومن ثم اقتصر الهدف على التمثيل الجغرافي لمناطق محددة من أوربا إلى الصين، ومن الصحراء الكبرى إلى الهند. وكان لجائحة كوفيد- 19 أن ساهمت في تقليص الانتقاء المناطقي والتمثيل الثقافي بشكل واضح وأحيانا أجبرت بعض الباحثين المساهمين في الكتاب على التركيز على ظروفهم الشخصية، ومما قاله المحررون بهذا الخصوص:(نأسف بشدة لعدم قدرتنا على تمثيل هذه المناطق بشكل أفضل في هذا المجلد، ونأمل ان يفتح لمزيد من العمل في هذا المجال المهم.. وعلى الرغم من الفجوات فإننا نأمل أن يستمتع القراء بالغزارة غير المسبوقة من وجهات النظر التي نقدمها حول الذكاء الاصطناعي) وما من لبس في ما تقدم، غير أن عملية ترتيب الدراسات لم تكن على أساس الخلفيات اللغوية والثقافية التي صُنفت إلى خمس مجموعات هي(الألمانية والسلافية والرومانية والصينية واليابانية) وإنما أيضا وُزعت توزيعا سياسيا إلى أربعة أقسام هي على التوالي(أوروبا، أمريكا والمحيط الهادئ، إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، شرق وجنوب شرق آسيا) ولا تخفى مراعاة هذا التوزيع لمواقع القوة والهيمنة فكان أن انفردت قارة(أوروبا) في حين جُمعت مناطق عدة تتوزع بين قارتين أو أكثر، هذا أولا، وثانيا أن توزيع اللغات كان هو الآخر بحسب تلك الهيمنة وليس بحسب الأبعاد التاريخية والديمغرافية، وإلا لكانت اللغة العربية حاضرة بين تلك اللغات. وثالثا أن ثقافات العالم القديم التي درست في الكتاب موضع الرصد توزعت بين قارتي آسيا وأمريكا اللاتينية في حين غابت الثقافة العربية التي لها من الإرث الحضاري والعمق التاريخي ما يجعلها مؤثرة بقوة في تشكيل أي متخيل من المتخيلات السردية. رابعا أن ما ذكره المحرران من أن مناطق العالم ليست جزرا نقية وإنما هي هجينة تتشكل من المهاجرين الجدد أو الشتات، نراه تصورا عموميا لا ينطبق على ثقافات الشرق بسبب ما لها من إرث أدبي وتقاليد راسخة، بل ينطبق على الثقافات الجديدة أو الوليدة التي أخذت تتشكل في قارة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وإلى حد ما بلدان أمريكا الجنوبية.
ولا يمكن فصل سردية الذكاء الاصطناعي في تبلورها الثقافي عن فاعلية الإعلام الموجه وتأثيراته الاجتماعية. ما يجعل تطبيقات هذا الذكاء واستعمالاته والمخاوف من مستقبله جارية في إطار تلك الفاعلية الإعلامية التي على الرغم من التفاوت في طبيعة ما تولده من تصورات لدى شعوب العالم كلا بحسب تاريخه وثقافته، فإن المصدر الذي أنتجها وما يزال ينتجها هو الغرب الناطق بالانجليزية. وهذا ما يتجلى واضحا في الكتاب موضع الرصد من ناحيتين:

  • الأولى أن الذكاء الاصطناعي يمثل مرحلة من مراحل تاريخ المعرفة الغربية التي لها أثرها في الفلسفات والإيديولوجيات والديانات وتنعكس في الهياكل الاقتصادية للدول والشعوب والتقاليد الثقافية. - الناحية الثانية أن اللغز الذي عليه تقوم سردية هذا الذكاء هو التكنولوجيا، مما يعبر عنه فيلم (ترانسندنس Transcedence)المنتج الأمريكي الذي يروج له في هيولوود وفيه أن الذكاء الاصطناعي هو أقصى درجات التكنولوجيا وهو الحل النهائي لمشاكل البيئة والتعليم والطاقة والأمراض وفي الوقت نفسه يمثل أقصى تهديد للبشرية إذ يمكنه أن يحول الأفراد إلى بيانات محوسبة أو يمنحهم الخلود الرقمي. وشاعت هذه الترويجات حتى لا نكاد نستثني منطقة في العالم لم تصل إليها وتؤثر في سكانها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مخلص خليل: الشعر والبحر

صورة الشعر.. دفاتر ضياء العزاوي

علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

أحتسي فراغَهُ وأرتِّل

ذكرياتنا الصادمة:هل نحفرُ فيها أم ندفنها في الأعماق؟

مقالات ذات صلة

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي
عام

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي

د. نادية هناويالقسم الأوليذهب ستيفن كايف وكنتا ديهال في تحريرهما كتاب(تخيل الذكاء الاصطناعي: كيف يرى العالم الآلات الذكية؟) 2023 إلى أن مفردة(ذكاء) سردية، ما يزال العلم إلى الآن لم يثبت حقيقتها الدالة بشكل علمي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram