TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

نشر في: 2 سبتمبر, 2024: 12:19 ص

 ستار كاووش

خرجتُ من متحف لام وأنا مُحَمَّلٌ بفتنة الأعمال الفنية والابتكارات المختلفة التي ملأت صالات العرض. وما أن وضعتُ قدمي خارج الباب الزجاجي للمتحف، حتى إنعكس لون الحديقة الأخضر على وجهي. حديقة مترامية الأطراف، صُمِّمَتْ بشكل خاص كي تتوزع فيها بعض الأعمال النحتية الكبيرة، فكانت مناسبة ممتعة للتجول بين هذه الأعمال التي أنجزها أساتذة كبار من فناني العالم. إبتدأت بعمل كبير جداً للفنان البريطاني ريتشارد ديكون، عنوانه (بين الحقيقة والخيال)، وهو بإمتداد عشرة أمتار أفقياً، فيما إرتفاعه ثلاثة أمتار، وقد أنجزه خصيصاً للمتحف سنة ١٩٩٢ بإستخدام صفائح فولاذية مطلية بلون رمادي، ويَبدو هذا العمل متحركاً بهيئته التي تشبه سطح بحر متموج أو منديل يشير للوداع، وحين إبتعدتُ عنه أكثر، بدا كأنه دبوس كبير أو حتى قشرة فستق. هذا العمل يعتمد على جمالية الحجم الكبير والمهول الذي يفاجيء المشاهد ويجعله يقترب منه متحسساً سطحه الجذاب اللامع، مثلما فعلتُ أنا بالضبط. تركتُ قشرة الفستق الضخمة ورائي وإنطلقتُ في أرجاء الحديقة، وما أن إنعطفتُ في إحدى زواياها حتى كدتُ أتعثر بمجموعة من الأولاد والبنات الذين أخذوا مكانهم فوق العشب، وقد إنتصبَ بجانبهم عمل الفنان جاك ليبشيتز وكإنه راية ترفرف فوق رؤوس هؤلاء العشاق الذين جعلوا الحديقة الخضراء بساطاً واسعاً لهم. منح الفنان ليبشيتز لهذا العمل البرونزي عنواناً غريباً، هو (أغنية حروف العلة)، حيث تبرز قاعدة التمثال الأسطوانية المرتفعة كإنها إحدى المسلات القديمة، فيما يختلج فوق القاعدة شخصان متداخلان وكإنهما كائن مجنح على وشك الطيران، وهذا العمل يقترب من أعمال ليبشيتز الأخرى التي تناول فيها عازفي القيثارة. عنوان العمل هنا مستمد من قصة مصرية قديمة تتعلق بإكتشاف ورق بردي كُتبت عليه صلاة سُمِّيَتْ أغنية حروف العلة، وهي أغنية أستخدمت فيها حروف العلة فقط، كان الغرض منها السيطرة على قوى الطبيعة. وقد قام ليبشيتز بإنجاز هذه النسخة من العمل بشكل خاص للمتحف، مع اضافة بعض التعديلات كمراعاة للتفرد عن نسخة العمل الأخرى الموجودة في باريس، وقد أخذ العمل مكانه في الحديقة سنة ١٩٩٣.
أكملتُ طريقي في الحديقة، فلمحتُ من بعيد عملاً للفنان يوجين دودياخ، وهو بعنوان (ثلاثة أشخاص) وقد أنجزه بمادة الحجر وبطريقة تجريدية سنة ١٩٩٨، ويتكون من ثلاث كتل متحركة كإنها سيقان لأشخاص في حالة مشي أو حركة، مع بعض الحزور التي حولت العمل الى ما يشبه بقايا بناء قديم، كذلك أضافَ بعض الحافات المتدرجة التي منحت العمل بعض الحيوية والحركة التي ذكرتني بمنحوتات برانكوسي ولوحات الرسام هورست. غادرتُ الأشكال الثلاثة التي إختفتْ خلفي كأنها مشابك غسيل عملاقة، وسحبت نفسي نحو عمق الحديقة، وهناك خلف بعض الأشجار لفتت إنتباهي حركة في الفضاء، تأملتها جيداً فلم تكن سوى عملاً كبيراً للنحات الكساندر كالدر، الذي اشتهر بمنحوتاته التي تتحرك في مع حركة الهواء. إقتربتُ من العمل أكثر فتعرفتُ عليه جيداً بعد أن إتَّضَحَ بلونه الرمادي الداكن كإنه خيمة، فيما صارت البقع الحمر والزرق التي تتحرك مع لمسات الهواء المنعش، كإنها فراشات ملونة ترفرف فوق عشب الحديقة. منح كالدر عنواناً غريباً لعمله (صليب الجنوب)، وكنتُ قد شاهدتُ نسخة من ذات العمل بمتحف جورج بومبيدو في باريس.
قطعتُ الجادة الصغيرة التي في وسط الحديقة، فظهرت لي (امرأة تمد ذراعيها) وهي منحوتة بيكاسو التي شغلت الجانب الأيمن من الحديقة، وهذا العمل قامت لويز ليريس وزوجها ميشيل ليريس بإهداءه الى المتحف ليكون ضمن معروضات الحديقة، ولويز هي مقتنية أعمال فنية وتنتمي لعائلة جامع الأعمال الشهير كاهنويلر ذاتها، فيما زوجها ميشيل كان شاعراً وكاتباً. العمل بإرتفاع خمسة أمتار وتم إنجازه بواسطة الأسمنت والحصى، وهو يعكس رؤية بيكاسو التكعيبية وطريقتة في تحوير الأشكال التي يرسمها، وقد تحول هذا العمل الى إحدى إيقونات المكان ومنحَ الحديقة بهجة وألفة، حتى أن بعض العوائل قد افترشوا المكان المحيط به متمتعين بمشاهدة العمل الفني تحت ضوء الشمس الدافئة.
وهكذا لم يكتفِ المتحف بالأعمال الفنية المذهلة التي تتوزع بين قاعاته، بل حوَّلَ حديقته مترامية الأطراف الى متحف من نوع آخر، وفي غمرة جولتي في هذه الظهيرة وسط هذه الأعمال الفنية التي عُرِضَتْ في الهواء الطلق، رأيتُ كيف بدأ الفرنسيون من الأحياء القريبة للمتحف بالوفود الى الحديقة وافتراش عشبها لصنع حفلات صغيرة هنا وهنا، لقاءات وطعام وأقداح، طاولات تنتصب بسرعة وخيام صغيرة تقي حر الشمس، البهجة حاضرة وحفلات الشواء تأخذ مداها في فضاء المكان، ومع مرور الساعات إتسعتْ الطاولات وإكتسبتْ الوجوه لوناً برونزياً بعد أن لوحتها الشمس وجعلتها أكثر إشراقاً، فيما انتصبت بعض الأكشاك لبيع الطعام والشراب، وصارت الأصوات تعلو أكثر وأكثر، بصخب محبب، لناس يحتفلون وسط الأعمال الفنية، بل ويعيشون معها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram