TOP

جريدة المدى > عام > قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!

نشر في: 4 سبتمبر, 2024: 12:03 ص

ماركوس دو سوتوي*
ترجمة: لطفية الدليمي
كنت أظن أنّ لعبة الثعابين والسلالم Snakes and Ladders التي كنت العبها منذ صباي مع شقيقتي – هي ابتداع غربي تماما؛ حين كنا نذعن لرحمة حجر النرد الذي يتحكم بمصير اللعبة تماما، لكنّ رحلاتي الحديثة إلى الهند كشفت لي أنّ هذه اللعبة لها جذور غير غربية فضلاً عن جوانب روحية غير متوقّعة. ترى إحدى التأويلات (التفسيرات) لهذه اللعبة أنها أستُخدِمت على نطاق واسع لتكون وسيلة تعليمية لطلب التحرّر من تقلّبات الكارما Karma ومُعيقات الشغف. بمقارنة الكارما مع اللعبة فإنّ الاحسانَ إلى الآخرين يحصل على مكافأة بسلّم صاعد إلى الأعالي؛ في حين أنّ الثمالة والعربدة وإيذاء الآخرين تكون مكافأتها المنتظرة ثعباناً يقود إلى المراتب الواطئة. المربّع الذي يقود إليه سلّمٌ صاعد يمثلُ موكشاMoksha: التحرّر من دائرة سلسلة الموت (التناسخ) وإعادة الولادة اللانهائية. رأى هنود آخرون أنّ لعبة الثعابين والسلالم تمثلُ المصير البشري الذي فحواه أنّ مسار حياتك أبعدُ ما يكون عن قدرتك في التحكّم والسيطرة، وأنّ المآلات الطيبة والسيئة في حياتك إنّما هي خاضعة لقوى لا تخضع لسيطرة المرء عليها.
هذه الرؤية للحياة التي تنطوي عليها اللعبة بكلّ فوضويتها وعبثيتها القاتلة هي أحد الاسباب التي جعلتها تجربة شخصية غير مرغوبة. باختصار صارت هذه اللعبة توصف بأنّها لعبة سيئة Bad Game. إذن، ما الذي يجعلُ لعبةً ما تستحقُّ الوصف بأنّها لعبة جيّدة حقاً؟ إنّ مثل هذه اللعبة يجبُ أن تحوي على عنصر الوساطة element of agency؛ بمعنى أن تتيح لك القدرة على التعبير عن نفسك وإظهار قدراتك (بدلاً من الارتكان الكامل إلى عنصر العشوائية والحظ والمصادفة). تستخدمُ الالعاب في الهند كممارسة تقليدية ضاربة القدم في حفلات الزواج لكي توفّر لكلّ ثنائي(رجل وإمرأة) حديثي الزواج وسيلة منظّمة ليعرفا طريقة تفكير بعضهما وبخاصة عندما يكون الزواج قد جرى بطريقة مدبّرة لم تُتِح للزوجين وقتاً كافياً للتعرف على بعضهما. الالعاب بهذا السياق هي فرصةٌ لمشاركة التجارب بما يشبه تجربة الرقص مع من تحب. في كلّ رقصة جيّدة، كما في كلّ لعبة جيّدة، أنت تحدّد خطواتك، ورفيقك في اللعب أو الرقص يستطيع تفسير هذه الخطوات واتخاذ الخطوات اللاحقة بناءً على الخطوات الحالية.
إرفنغ فِنْكل Irving Finkel، الذي يعملُ مسؤولاً عن المخطوطات واللغات والثقافات الرافدينية القديمة في المتحف البريطاني، يرى أنّ الالعاب تعملُ على شحذ مهاراتنا الذهنية في قراءة أفكار الآخرين عبر جعل أنفسنا نفكّرُ كما لو كنّا في مواقعهم. سنفكّرُ حينها: ماذا سأفعل؟، وبسبب هذه القدرة للألعاب فإنّها كانت خصيصة ملازمة لكلّ ثقافة راقية. يذهبُ فنكل أبعد من هذا فيرى أنّ الالعاب تطوّرت جنباً إلى جنب مع تطوّر الوعي البشري. يحاجج فنكل أنّنا لو تخيّلنا الكيفية التي يفكّر بها كلّ لاعب في الحركة اللاحقة فإنّ هذا التخيّل هو أقربُ ما يكون لوسيلة نستبطنُ بها الحياة الداخلية (الذهنية) للآخرين، وتلك خصيصة مميزة لكلّ مهارة إجتماعية أساسية يتوجب حيازتها من قبل كلّ حيوان إجتماعي (الانسان حيوان إجتماعي بالتأكيد). من المثير أن أشير هنا إلى أنّ فنكل هو المسؤول عن فكّ مغاليق شفرة القواعد لواحدة من أقدم الالعاب الموثّقة في التاريخ المسجّل: تلك هي لعبة ملكية نشأت وشاعت في مدينة أور Ur قبل4500 سنة من تاريخنا الحالي، (تقع أور جنوب العراق قرب مدينة الناصرية – المترجمة) وقد أعيد إكتشافها خلال تنقيبات آثارية في المدينة جرت في عشرينات القرن الماضي. كان اللاعبون في تلك اللعبة الملكية يتنافسون على قطع ثمينة (مثل أحجار كريمة) حول لوح اللعب مستعينين بنرد ذي شكل يشبه الهرم.(اللعبة الملكية السومرية او لعبة اور معروضة في المتحف البريطاني – المترجمة)
لعبة الثعابين والسلالم، كما نعرف، لا توفّرُ لنا أيّ نوعٍ من الامكانيات لولوج عقول اللاعبين المشاركين ومعرفة ما الذي يفكّرون فيه أثناء اللعب؛ لذا ربّما ستكون الالعاب التي تعتمدُ على ستراتيجيتنا الخالصة (بعيداً عن أي عنصر من عناصر الحظ أو المصادفة) مثل الشطرنج أو لعبة Go مثالاً للكمال المُفْتَرَض الذي يثيرُ نوازعنا الظريفة. المدهشُ في الامر لكثيرين منّا أنّ لعبة الشطرنج -التي تمتدّ جذورها إلى الهند أيضاً- تضمّنت في شكلها الاولي دوراً للنرد الذي سيحدّد أيّ القطع يُسمَحُ لنا بتحريكها؛ لكن عندما تمّ حظر المقامرة والالعاب التي تعتمدُ على عنصر الحظ في الثقافة الهندية وجد لاعبو الشطرنج حينها وسيلة تجنّبهم عواقب الاستنكار بأن عمدوا بكلّ بساطة لإلغاء دور النرد في نقلاتهم؛ فصاروا هم وحدهم من يتحكّمون في هذه النقلات، وهذا أمرٌ قاد بالطبع لجعل الشطرنج لعبة يعتمد الفوز فيها على الذكاء الشخصي في حساب النقلات ومآلاتها اللاحقة وليس شيئاً أبعد من هذا.
مع أنّ ألعاب الشطرنج و Go تمتاز بجمال فائق وأناقة فكرية باذخة فإنّ إعتمادها على الستراتيجية الشخصية وحدها بدلاً من الحظ يجعلها عُرْضة لنوع آخر من المعضلات: ما لم يكن المتبارون متماثلين في قدراتهم إلى أقصى الحدود الممكنة فإنّ نتيجة اللعبة ستكون قابلة للتخمين بصورة مسبّقة. في اللعبة الكاملة Perfect Game يتوجّبُ دوماً أن تتاح لك فرصة الفوز بحركة إستثنائية غير محسوبة حتى لو كانت قدراتك أدنى من قدرات منافسك في اللعبة. بعبارة أخرى: تفترض اللعبة الكاملة حتمية وجود عنصر من عدم القدرة على التخمين المسبق بالنتيجة. نحنُ في النهاية نلعب لعبة ما بسبب وجود فرصة لأن يغلب أحدٌ منّا الآخر، ولو عرفنا النتيجة مسبقاً فليس ثمّة معنى أو رغبة في اللعب. لا أحد منّا يرغب في لعب لعبة نتيجتُها محسومة. اللعبة ستكون حينها سخيفة مملّة ومفتقدة تماماً لعنصر الامتاع. لو لعب مثلاً غاري كاسباروف أمام دونالد ترمب في جولة شطرنج فلن تجعل هذه اللعبة الناس في أقاصي العالم يقفون على أطراف أصابعهم منتظرين النتيجة. النتيجة محسومة سلفاً!!
إذن، الموضوعة الأساسية في أية لعبة كاملة هي في إقتران عنصر الستراتيجية الذهنية الشخصية مع عنصر عدم القدرة المسبقة على التنبؤ unpredictability بمن هو الفائز المحتّم. كل لعبة كاملة يجب أن تضمن استمرارية عنصر عدم القدرة على توقّع الفائز لأبعد زمن ممكن، وهذا أحد العناصر المميزة في تصميم كلّ لعبة تسعى لأن تكون لعبة كاملة جيّدة. لعبة Monopoly، على سبيل المثال، تفتقد هذه الخاصية؛ إذ ما أن يحرز المرء تفوّقاً واضحاً فيها فسيكون من المتعذّر،بل المستحيل، عكسُ النتيجة المحتومة.
أحد العناصر الاخرى المميزة للعبة الكاملة هو قواعدها البسيطة التي تجعلك تفهمها في مدى زمني قصير بسرعة كبيرة. لديّ تجربة سيئة مع أفراد عائلتي. تعلّمتُ من خبرتي المسبقة معهم أنّهم لا يطيقون الاصطبار لتلقّي تعليمات اللعب لأكثر من دقيقتين لأنّ قدرتهم ضئيلة للغاية على الانتباه والمتابعة بحيث ترسّخت عندي قناعة بأنني إذا لم أجعلهم يتعلّمون القواعد خلال دقيقتين من بدء حديثي معهم فقد خسرتهم إلى الابد كلاعبين محتملين معي!! لننتبه هنا: بساطة القواعد لا تعني نتائج متكرّرة متماثلة. في اللعبة الكاملة يجب أن تقترن بساطة القواعد مع إمكانية النتائج المختلفة في كلّ مرّة، وهذا بالضبط ما يجعل اللعبة تستحقّ التكرار واللعب مرة بعد أخرى.
إلى أين يقودنا هذا السعي نحو اللعبة الكاملة؟ لو أتيح لي الخيارُ فسأختارُ لعبة الطاولة backgammon لأنها مليئة بالدراما والمنعطفات المفاجئة والانقلابات غير المتوقّعة. يمكنُ أن يتغيّر الحال وتنقلب الاوضاع بكيفية دراماتيكية مع كلّ رمية نرد، وكما يحصل في رياضيات الفوضى Chaos فإنّ تغيّرات صغيرة قد تقود الامور في إتجاهات جديدة وغير متوقّعة تماماً. يمكن للمبتدئ في هذه اللعبة أن يتغلّب على خبير فيها؛ لكن حتى في الاحوال التي يكون فيها النرد معاكساً لك يمكنك لو إتّبعتَ ستراتيجية ذكية أن تمسك بزمام اللعبة وتنهيها لصالحك. لا يمكن لقواعد هذه اللعبة أن تكون أكثر بساطة ممّا هي عليه؛ لكن برغم ذلك ففي آلاف المرات التي لعبتُ فيها هذه اللعبة إنتهت اللعبة بطريقة مختلفة كل مرّة. هذه اللعبة(لعبة الطاولة أو النرد كما تسمّى إختصاراً) هي واحدة من أكثر الالعاب تحقيقاً لشروط اللعبة الكاملة المتاحة والممكنة، وفضلاً عن هذه الميزة النوعية فهي أيضاً واحدة من أقدم الالعاب التي عرفتها البشرية، ويمكنُ تتبّعُ آثار أصولها الاولى في لعبة اور التي فكّك فنكل شفرتها في المتحف البريطاني.
ليس بوسعي آخر المطاف،وكما هو متوقّعٌ، سوى التأكيد بأنّ اللعبة الكاملة - شأنها شأن الكتاب الكامل- مسألةٌ تحكمها الذائقة الشخصية. البعض يحبّ التفلّت من كلّ قاعدة ضابطة للعب وترك الامور للنرد لكي يحدّد مصير اللعبة. آخرون بفضّلون الابقاء على عنصر بشري ذهني يعملُ على شحذ قدراتهم الفكرية سعياً وراء أفضل ستراتيجية ممكنة.
أخبرْني باللعبة التي تلعبها وسأقول لك من أنت!!

  • ماركوس دو سوتوي Marcus Du Sautoy: أستاذ الفهم العام للعلوم وأستاذ في الرياضيات في جامعة أوكسفورد. رئيس الجمعية الرياضياتية. نشر عدداً من الكتب التي لاقت رواجاً عالمياً كبيراً، كما قدّم عدداً من الوثائقيات لحساب ال BBC. آخر كتبه المنشورة هو:
    Around the World in 80 Games
    صدر (تشرين أوّل) عام 2023.
    عن الغارديان

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً>

حفيد البي بي سي لميسلون هاديهي.. ليست مجرد حكاية عابرة

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!

"خيارات" رحلة لاستكشاف الحياة الخاصة لليف اولمان

جمال حسين علي: ليس لدي اهتمامات أدبية حسب.. بل أنا مخلوق من الأدب

مقالات ذات صلة

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!
عام

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!

ماركوس دو سوتوي*ترجمة: لطفية الدليميكنت أظن أنّ لعبة الثعابين والسلالم Snakes and Ladders التي كنت العبها منذ صباي مع شقيقتي – هي ابتداع غربي تماما؛ حين كنا نذعن لرحمة حجر النرد الذي يتحكم بمصير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram