د. طلال ناظم الزهيري
تاريخ السينما هو مسيرة حافلة تعكس التقدم التكنولوجي والإبداعي في صناعة الأفلام. حيث بدأت السينما في أواخر القرن التاسع عشر تزامنا مع اختراع آلات العرض الأولى مثل جهاز "الماسكوب" الذي قدم عرضًا متحركًا لصور ثابتة كانت الأفلام في البداية صامتة ولكن مع تطور التقنية في العقد الثاني من القرن العشرين ظهرت الأفلام الناطقة مما أحدث ثورة في صناعة السينما وخلال المدة بين العقد الثالث والرابع من القرن العشرين شهدت السينما ازدهارًا وتنوعا في الافلام مابين الموسيقية والأفلام الدرامية.
في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ظهرت أساليب جديدة في الإخراج والتصوير مما أدى إلى ظهور أفلام ذات طابع أكثر احترافية. و مع نهاية القرن العشرين دخلت السينما عصر التكنولوجيا الرقمية مما غير آلية تصوير وعرض الأفلام بدأً من التصوير الرقمي إلى التأثيرات البصرية المتقدمة هذه التقنيات ساعدت على انتاج افلام بمضامين قصصية متنوعة سواء كانت في بيئات واقعية اوخيالية. واليوم تستمر السينما في التطور خاصة مع دخول تطبيقات الواقع الافتراضي والواقع المعزز في مجال صناعة الأفلام مما يفتح آفاقًا جديدة للابتكار والإبداع. وهنا لا بد من الاشارة الى ان السينما ومنذ ظهورها كما اسلفنا كانت قد احتلت مساحة واسعة من اهتمام المجتمعات وكان لها تاثير مباشر في احداث تغيرات اجتماعية وسياسية كبيرة. حيث خرجت الاعمال السينمائية من اطارها الترفيهي التقليدي الى مسارات اخرى تكاد تشمل مختلف الجوانب الحياتية للمجتمع.
ان هذا الاهتمام الجماهيري بالاعمال السينمائية جذب اليها العديد من المستثمرين الامر الذي ادى الى نشؤ صناعة متكاملة تحقق عوائد ربحية ضخمة. وفي هذا السياق نعتقد ان الاجندات السياسية للدول كانت حاضرة في هذا المشهد المؤثر فحاولت ان تستخدم الاعمال السينمائية لتحقيق اهدافها وغاياتها التي قد تعجز عن تحقيقها بالاساليب الاخرى. ولان قوة التاثير تتناسب طرديا مع تقدم صناعة السينما في اي بلد بالتالي كانت الولايات المتحدة الامريكية هي الدول المهيمنة في هذا المجال. حيث تعد (هوليوود) ومنذ أوائل القرن العشرين مركز صناعة السينما في العالم وموطنًا لأكبر وأهم شركات الإنتاج السينمائي. والتي تميزت بإنتاج أفلام ذات جودة عالية وتقنيات متقدمة مما جعلها وجهة للموهوبين في التمثيل والإخراج والكتابة من جميع أنحاء العالم. أدى ذلك إلى تعزيز هيمنة السينما الأمريكية على الأسواق العالمية مما جعلها القوة المهيمنة في صناعة السينما حتى اليوم. و إلى جانب كونها مركزًا للإبداع كانت هوليوود أيضًا أداة قوية للتأثير الثقافي والسياسي حيث استخدمت الأفلام كوسيلة لنشر القيم الأمريكية وترويج الأجندات السياسية. ومن باب الانصاف ايضا قدمت هوليوود مجموعة من الافلام التي كان لها الاثر في تغيير الواقع الاجتماعي الامريكي او توجيه انظار العالم نحو القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي. و هذه الأفلام ليست فقط ناجحة من الناحية التجارية بل كانت لها تأثيرات أعمق على الوعي الاجتماعي والسياسي سواء في الولايات المتحدة أو خارجها.
ولعل المتتبع للافلام الامريكية سوف يلاحظ ان الصورة النمطية للعرب في الأفلام الأمريكية غالبًا ما تتسم بالعديد من السمات السلبية والمتحيزة التي تكرس أفكارًا خاطئة وتديم التصورات المشوهة. بعض هذه الصور النمطية تظهر العرب كأشخاص عدائيين وشهوانيين يتسمون بالصلافة والهمجية. كما يتم تقديمهم على أنهم ميالون لاستخدام القوة والعنف. وفي معظم الاحيان يتم تصوير العرب إما كبدوٍ يعيشون في الصحراء أو كأثرياء فاسدين يمتلكون النفط ويعيشون في بذخ مفرط. ولعل وضعهم في اطار التخلف الثقافي صورة اخرى للعرب في الافلام الامريكية. واليوم نحن امام مشهد جديد تؤدي فيه السينما دورا مهما في صناعة الازمة.
الحديث هنا عن الفيلم الهندي (حياة الماعز). تدور احداث الفيلم في السعودية عندما يصل (نجيب وصديقه حكيم) وهما مهاجران من كيرالا في الهند بحثًا عن حياة أفضل بتأشيرات تم ترتيبها من قبل معارفهما. ولجهلهم باللغة العربية اصبحوا عالقين في المطار دون معرفة رب عملهما يقترب منهما مواطن محلي يظنان خطأً أنه كفيلهما. ليأخذهما في رحلة طويلة ويتم فصلهما عن بعض ويترك نجيب للعمل في صحراء نائية في رعاية الماعز. في ظل ظروف قاسية وعزلة يشهد نجيب وفاة أحد رعاة الماعز الآخرين مدركًا الخطر الذي يواجهه الى نهاية القصة.
الفيلم في سياقه الدرامي لا يختلف عن الكثير من الافلام التي تدور احداثها حول معاناة الاستعباد والاستغلال والقهر الانساني. مع هذا ومن بداية عرض الفيلم من على شبكة Netflix اثار حول الكثير من ردود الافعال المتباينة في وجهات النظر إلى درجة الرجم والتخوين. لكن المشكلة الآن ليست في الفيلم نفسه وانما فيما كشفه الفيلم من عمق الانقسام العربي والدور المؤثر لمواقع التواصل الاجتماعي في توجيه البوصلة النقدية الى هذا الطرف او ذاك. والمتتبع لمواقع التواصل الاجتماعي سوف يلاحظ ان فيلم "حياة الماعز" قد أثار جدلاً واسعًا في العالم العربي وأدى إلى انقسام الآراء حول العديد من القضايا. يعد هذا الفيلم مرآة تعكس عمق الخلاف العربي حول القضايا الاجتماعية والسياسية المعقدة في المنطقة. من هذا المنطلق ومن وجهة نظر حيادية اجد ان ما تعرض له العامل الهندي (نجيب) ان صحت الواقعة هو حادثة فردية يمكن ان تكرر في أي مكان آخر. وان ما قام به (الكفيل) هو تصرف فردي ايضا ولا يمثل في أي حال من الاحوال سياسة دولة. حتى وان كانت هناك شواهد وحوادث مشابهة. مع الاخذ بنظر الاعتبار ان دولة مثل المملكة العربية السعودية فيها اعداد كبيرة من العمالة الاسيوية بالتالي فأن تكرار مثل هذه الحوادث هو امر وارد جدا. مع هذا من المهم ان تراجع الدولة سياستها لغرض تنظيم شؤون العمالة بالطريقة التي تمنع معها حدوث حوادث مشابهة مستقبلا. من هذا المنطلق لا اجد مبرر لمهاجمة الفيلم بالطريقة التي لاحظناها في التغريدات خاصة وانه لم يبتعد في التعاطي مع الحدث خارج الاطار الدرامي للقصة.
وبصرف النظر عن واقعية القصة من زيفها كان بالامكان تحجيمها اعلاميا. لكن على العكس من ذلك لعبت ردود الافعال الغاضبة من مواطني المملكة العربية السعودية على الفيلم والمشاركين فيه ادى إلى رفع نسبة المشاهدات إلى درجة لم يكن يحلم بها صناع الفيلم. وهذا الأمر للاسف سوف يشجع منتجين اخرين من السير في هذا الاتجاه مستقبلا وعرض قصص اخرى تحمل الطابع نفسه. ان شبكات التواصل الاجتماعي غالبا من تكون عاملا مهما في توجيه اهتمام المغردين نحو قضايا ذات تاثير محدود في البداية ثم يتم تضخيمها إلى درجة تتداخل معها قضايا اخرى قد تحدث شرخا في علاقات الدول مع بعضها. ومن منظوري الشخصي ان دول الخليج مدعوة اليوم إلى تشجيع الحوار البناء والهادئ حول هذه القضايا وتقديم حلول لمنع تكرارها مستقبلا. و التركيز على معالجة المشاكل الحقيقية التي يعاني منها العمال الوافدون وتنظيم شؤونهم بالطريقة الملائمة. ومن الضروري عدم تعميم الأحكام على شعوب أو دول بأكملها بجريرة افراد مع التاكيد على اهمية التحقق من صحة المعلومات ومقاطع الفيديو قبل نشرها. ولان حق الرد مكفول يمكن لدول الخليج ان تساهم في إنتاج أفلام ومسلسلات التي تعالج القضايا الإنسانية والاجتماعية بطريقة تعكس الواقع بموضوعية ودون تحيز مع مراعاة الثقافات والقيم المختلفة.