TOP

جريدة المدى > عام > شخصيات أغنت عصرنا . . الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف

شخصيات أغنت عصرنا . . الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف

نشر في: 8 سبتمبر, 2024: 08:03 ص

بلقيس شرارة
التقيت بالكاتب والروائي عبد الرحمن منيف في دمشق بصحبة زوجته سعاد، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد أن ترك العراق منذ أكثر من عقد تقريباً.
كان آنذاك ضد الوضع، ودار الحديث عن الوضع السياسي في العراق، وليس فقط عن معاناة العراقيين من الحصار الذي فُرض على العراق آنذاك من قبل هيئة الأمم، وإنما عن الرقابة الشديدة والحكم الشمولي، الذي عانى منه العراقيون وخاصة الفئة المثقفة والمفكرة تحت قبضة صدام حسين الحديدية. إذ كان صدام هو الفرد المهيمن على كل شيء، فبامكانه تصفية الخصوم، وهدر انسانية الإنسان، في مثل هذا الجو كتب عبد الرحمن: "يصبح الحلم هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الانسان ان يمارسه دون رقابة".
كان منفتحاً بنظرته للحياة، عقلاني التفكير، لا يؤمن بالخرافات أو الاساطير، وكان يقول: "ان الشيء الذي يتعذر كسبه عن طريق المال هو العقل". كما كان يؤمن باستقلالية المثقف بكل معنى الكلمة، خاصة فيما ينتجه الكاتب أو الأديب.
وقد كتب عن الديمقراطية: "هي الاساس ليس لفهم المشاكل، وانما للتعامل معها، وبمقدار حضورها كممارسة يومية، وكقواعد وتقاليد، تضعنا في مواجهة مباشرة مع المسؤولية، وتضطرنا، مجتمعين، للبحث عن عرض المزيد".
والتقينا به ثانية في دمشق، بصحبة زوجته سعاد في الحمام القديم الذي تحول إلى قاعة لألقاء المحاضرات، حيث افتتح بمحاضرة لرفعة وعرضَ سلايدات في التصوير الفني. ووجدته متعباً آنذاك، فقد تغير كثيراً عندما التقينا به في عمان في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث ألقى رفعة في تلك المناسبة محاضرة عن بنوية العمارة.
وفي عام 2000، التقينا في الأردن ثانية، بعد أن صدرت رواية شقيقتي حياة شرارة "إذا الأيام أغسقت"، وكتبتُ لها مقدمة طويلة بـ 75 صفحة، بعد المأساة التي مرّت علينا كعائلة بفقدانها وفقدان ابنتها المفاجئ.
قرأ عبد الرحمن الكتاب واعجب بالمقدمة، ويظهر انه لم يكن متأكد من أني كتبت المقدمة، إذ لم يصدر لي إلا تلك المقدمة آنذاك.
وتذكرتُ والدي محمد شرارة، عندما كان يقول لي دائماً: لما لا تكتبين يا بلقيس، وذلك بعد ان اعود من رحلة وأصف له ما شاهدت وصفاً دقيقاً فوتوغرافياً، فكنت اجيبه دائماً: ان عائلة شرارة معظها كتّاب وشعراء، ولا تحتاج العائلة إلى كاتبة جديدة. ويعم الصمت بيني وبين والدي.
لذا ظلت الشكوك مهيمنة على عبد الرحمن منيف بخصوص هذا الموضوع. موضوع كتابة المقدمة، إذ كان أسلوب الكتابة مفاجئة كبيرة له، ولم يكن مقتنع في قرارة نفسه، لذا سألني: هل كتبتِ شيئاً قبل هذه المقدمة، أجبت: لا، إن أول مرة أكتب فيها هو مقال عن نعي شقيقتي حياة في "جريدة الحياة"، فاستغرق في الصمت، ولم يسألني سؤال آخر!
لم يكن عبد الرحمن وحده الذي شّك في ذلك، وإنما عدد من المعارف الذين لم يصدقوا من أنني كتبتُ المقدمة، فكيف لي ان أكتب بهذا الأسلوب، وليس عندي أية خلفية للكتابة؟ لكن يظهر ان المخزون الكبير مما قرأته خلال حياتي من كتب، وما سمعته من والدي الذي كان يتحدث باللغة الفصحى معنا منذ الطفولة، كان له أثر في ذلك، وكانت المقدمة تعبير عن ذلك الخزين.
كان عبد الرحمن معجب بوصفي لمدينة النجف، إذ افتتحتُ المقدمة:
"مدينة النجف، مدينة غريبة لا تشبه مدن العالم، ربما لا يوجد مدينة على شاكلتها إلا مدينة بنارس في الهند التي تعيش وتحيا من الأموات. فالنجف مدينتان، مدينة الموتى ومدينة الأحياء، ويتلاشى الفاصل بينهما ويصبح متشابكاً ومتلاحماً. فمدينة الموتى لا تخلو من الأحياء القادمين من مدينة الأحياء في النهار لاستمرار طقوس الدفن. إذ تأتي إليها جنائز الموتى من كل حَدبٍ وصوبٍ في العالم الإسلامي، وتتعالى الأصوات التي يشوبها الألم والأسى على فقدان الأقرباء والأعزاء، وتضفي أشباح الموتى عليها جواً من الهلع المكبوت والسكينة القدرية". (بلقيس شرارة، مقدمة رواية "إذا الأيام أغسقت").
في عام 2003 كنا في بيروت، ودعا رفعة عدد من المعماريين والفنانين والكّتاب في دارنا في "حالات" الواقعة على صخرة، تطل على البحر الأبيض المتوسط. كان هنالك آنذاك عزل تام بين الطوائف المختلفة في لبنان بعد الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشرة عاماً وانتهت في عام 1990، وبالرغم من مرور عقد ونصف تقريباً إلا أن العزل ظل مستمراً بين الطوائف. فعندما دخل بعض المعماريين الذين ينتمون إلى الطائفة المارونية، استغربوا من ذلك الخليط بين الطوائف، فقال احدهم: إن دار رفعة هيئة أمم، أي انها تضم الجميع وليس هنالك فرق بين طائفة وأخرى، فكان في تلك الليلة موجود، الدرزي جالس بجانب الماروني والشيعي بجانب السني، والأروثودكسي بجانب البروتستاني.
وكان عبد الرحمن منيف من بين المدعوين في تلك السهرة، كما كان كتاب "جدار بين ظلمتين" الذي كتبته مع رفعة، قد صدر عن دار الساقي، وقرأه عبد الرحمن، ودار الحديث بيني وبينه، قال: لقد قرأتُ الكتاب، بعد ان انتهيت من قراءته، عدتُ إلى قراءة المقدمة، التي كتبتها عن رواية شقيقتك "إذا الأيام اغسقت"، فقرأتها ثانية وقارنتها بما كتبتيه في كتاب "جدار بين ظلمتين"، ووجدتُ ان الاسلوب في الكتابة هو نفسه، وبذلك أود ان أقول لك، انني اكتشفت كاتبة جديدة، ولم يكتفي بذلك بل كتب مقالاً عن كتاب "جدار بين ظلمتين"، ومن جملة ما ذكر، انه اكتشف كاتبة جديدة.
وبسبب تنقله وعيشه في عدة بلدان، وتركه ما يسمى بالوطن، حيث طرد من العراق مع عدد كبير من الطلاب العرب وواصل دراسته في القاهرة، ثم سافر الى يوغسلافية وتابع دراسته في براغ، ثم باريس، حيث انهى دراسته وحاز على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية متخصصاً في النفط، وعمل في مجال النفط في الشركة السورية للنفط. غادر الى لبنان ثم العراق وبدأ الكتابة عام 1973، وفي عام 1975 تولى تحرير مجلة النفط والتنمية.
لذا بسبب ذلك فإنه: " يشعر أنه مقسوم إلى درجة التلاشي"، فهو سعودي الجنسية، لكنه ولد في الأردن، وتنقل بين البلدان العربية للدراسة، ثم باريس، حيث اكمل دراسته وحصل على شهادة القانون من جامعة السوربون، وعلى الدكتوراه في الاقتصاد. انتمى في تلك المدة إلى حزب البعث عندما كان في بغداد، واستقال منه في عام 1962.
بعد أن ترك العراق، استقر في دمشق عام 1986، لذا يقول: "اشعر انني مقسوم الى درجة التلاشي، لكن في مكان ما، لا أعرف أين، اشعر ان هناك شيئاً لا زال يتحرك، وهذا الشيء هو الذي سينقذني، إنه جزيرة خضراء قريبة، وهو المركب الوثيق، وكأنه فنار آلهة قديمة تنتظر مسافرين سيأتون من أمكنة قصية، وليست لديهم فرصة طويلة للإنتظار أو التوقف".
كتب العديد من الروايات والقصص القصيرة، وكان غزير الانتاج، فقد كتب 15 رواية. ويعتبر من اهم الكتاب السعوديين في القرن العشرين، وبعض الكتّاب يعتبرون ان اسلوبه في الكتابة وحبك الرواية متأثر بالكاتب البولوني البريطاني جوزيف كونراد/ Joseph Conrad، وكتابه "مدن الملح" الذي صدر عام 1984، والمؤلف من خمسة اجزاء، عن اكتشاف النفط، وتأثير تلك المادة الخام المستخرجة من الأرض، وعن التحولات المتسارعة التي حلت بمدن وقرى الجزيرة العربية بسبب اكتشافه. وكيف غيّر النفط التقاليد والعقلية البدوية، في " شخصيات ليس لها من جذور تعيش اساساً في مدن قابلة للذوبان، وتأثير المادة الخام الثمينة المستخرجة من الأرض في مستخريجيها"، فالصراع الذي بدأت بوارده في قصة "التيه" وهو الجزء الأول، حيث، "يتصاعد في الأخدود بعد ان تم تشييد مدن من الحديد والأسمنت، وبعد ان اخذت السلطة تعتمد على القوة والقمع من اجل الإخضاع ثم الترويض، في عالم التجاذب والاستقطاب، ولأن الناس غيبوا، تصبح الحكومات امتداداً لإرادة الأجنبي ورغباته، وتصبح الثروة وسيلة للضعف لا للقوة، من خلال الإنفاق والتبديد على المظاهر والاستهلاك، لا من أجل الاستقلال وإعداد للمستقبل، وهكذا يزداد الشرخ، ويتسع الاخدود، ويصبح المستقبل رهاناً على المجهول". وشخصية متعب الهذال، المتمرد على السلطة والرافض للتحكم السياسي بديلاً عن النظام القبلي الحر الذي لا يعرف حدود ولا يعترف بسلطة، انه وصف إلى الصدمة الحضارية، وكيف بدأ بناء المدن النفطية في حّران وغيّر أحوال الناس. إن مثل هذه الصدمة تحتاج لدراية وعلم واسعين، وقد أجاد عبد الرحمن في استعمال اللغة لإيصال التفاصيل والإنطباعات بدقة. وقد اغاظ الكِتاب الطبقة الحاكمة في السعودية، ومُنع تداوله، وسُحبت جنسيته السعودية على أثر ذلك.
كان عبد الرحمن منيف ضد الحكم الدكتاتوري المهيمن على معظم البلدان العربية، وكان يؤمن ان الشعوب هي التي تخلق الدكتاتور، فكتب عن ذلك: "قناعتي أننا نحن الذين خلقنا الجلادين، ونحن الذين سمحنا باستمرار السجون. لقد فعلنا ذلك خلال تساهلنا وتنازلنا عن حقوقنا، ومن خلال استسلامنا لمجموعة من الأوهام والأصنام، ثم لما أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذه الحالة".
في عام 1975 نشر روايته بعنوان "الشرق المتوسط" وهي عن الحرية وفقدانها، عن السجن السياسي، وبطل الرواية يسجن ويعذب حتى يفقد بصره من شدة التعذيب، إنه انعكاس لما يجري في البلدان العربية في سجونها، ولم يذكر بلد معّين في روايته، وإنما شمل جميع البلدان العربية.
كانت علاقته متينة بالكاتب والروائي جبرا ابراهيم جبرا وقد كتبا سوية رواية "عالم بلا خرائط"، حيث تظافرت تجربتهما، إذ كان عالماً مليئاً بالتساؤلات والمشاعر والتناقضات والشكوك حول شخصية الراوي." واتسمت الرواية بتركيز لغوي إذ اقترب نص الرواية من الشعرية ولكنه لم يضْع خيط الأحداث، ورسم الشخصيات بكل دقة وموضوعية واحتفظ للقارئ بمتعة التشويق والإثارة عبر حكايات متلاحقة مستعصية التأويل". ومن خلال رؤية البطل الذي كان ككل أبطال منيف أو جبرا السابقين "عربياً متوتراً مقيداً بعلاقاته وواعياً بحدة وقسوة لمصير وطنه".
كما كتب مقدمة لكتاب تكريم جبرا إبراهيم جبرا الذي صدر في عام 1995، بعنوان:
" القلق وتمجيد الحياة"، شارك به عدد من الكتّاب المعروفين في العالم العربي.
بالرغم من انتقاده لصدام حسين ومعارضته النظام القائم في العراق، إلا انه كان ضد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
كانت آخر مرة التقي بها بالكاتب عبد الرحمن في بيروت، و أخبرتني زوجته سعاد أنه يعاني من مرض الكليتين، لذا كان يذهب إلى المستشفى لتصفية دمه أسبوعيا. وعلمتُ بعد مدة قصيرة، انه توفي بالسكتة القلبية، في بداية عام 2004، عن عمر ناهز 71 عاماً.
وكتب عن الحزن: "ما الحزن إلا قسوة يفرضها المرء على نفسه… أسير أنا في الحياة والفرح يهجرني والعباد ترمقني بنظرات تتعبني، نحن نحيا بالحزن، وبالحزن وحده فقط نحن ننتصر على الضجر". كما كتب: "إن الإنسان يريد أن يتألم ويبكي، ويبحث في الخفاء عما يثير فيه ذلك الألم وهذا البكاء، وكذب كله هذا الذي يقولونه ويكتبونه من أن الانسان ينشد لنفسه وللناس راحة وطمأنية وسعادة… الإنسان إرادة قبل كل شيء".
كانت وفاته مفاجئة لنا، وخسرنا بوفاته مفكراً وروائياً من الطراز الأول، أغنى ورفد الأدب العربي لأربعة عقود بغزارة إنتاجه. شعرت بفراغ كبير وحزن عميق، فأنا أحزن كلما نفقد مفكراً مهماً، إذ نحن بأمس الحاجة لأمثال كتّاب ومفكرين بمستوى عبد الرحمن منيف، خاصة عندما نلتفت حولنا في العالم العربي ولا نرى إلا غمامة الطائفية السوداء والإسلاميين الأصوليين تلفنا وتحاول أن تسيطر على أجوائنا!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

شخصيات أغنت عصرنا . . الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف

موسيقى الاحد: بوكستهوده في هلسنيور

المعماري خالد السلطاني وذكرياته عن غائب طعمه فرمان

متحف ليف تولستوي يستضيف دارسيه ومترجمي أعماله للغات الأجنبية

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

مقالات ذات صلة

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة
عام

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

لطفية الدليميجويس كارول أوتس واحدةٌ من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة تمتد لعقود طويلة. قرأتُ لها العديد من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب بل شخص متعدد الانشغالات: أستاذة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram