لطفية الدليمي
أحسبُ أنّ معظمنا رأى المشهد الهزيل عبر الصور المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي: رئيس وأعضاء مجلس محافظة المثنى يقدّمون لطالبة متفوقة في السادس الاعدادي هدية تفوقها وهي (لحاف)، لحاف وحسب. ترى الطالبةَ وهي تجاهد في رسم ضحكة خجولة على وجهها تداري به شعورها بالاحراج. ربما كانت هي وزميلات لها يتوقّعن هدايا ثمينة هي بعض استحقاقهن لتفوقهن؛ لكنْ يبدو أنّ عقول أعضاء مجلس المحافظة تفتّقت عن هذه الهدية البائسة وغير اللائقة. ربما رأوا فيها هدية كبيرة الحجم وبسعر زهيد فاقتنصوا الفرصة لاصطياد عصفورين بحجر واحد: حجم كبير ببضع دولارات، وستملأ أخبارهم وسائل التواصل الاجتماعي: مجلس محافظة (المثنى) يكرّم الطلبة الاوائل في الدراسة الاعدادية. من الطبيعي أنهم مطمئنون إلى أنّ لا أحد سيكشف طبيعة الجائزة رغم كونها مرئية للعيان. قيل أنّ مجالس محافظات أخرى وزّعت (بطانيات) على المتفوقين.
مجالس المحافظات تشكيلاتٌ إدارية زائدة عن الحاجة، وهي تستنزف أموالاً طائلة من أجل دعم الاحزاب وتركيز سطوتها في المحافظات عبر خلق نوع من الموازنة المحاصصاتية المفترضة بين مجلس المحافظة والمحافظ. يستكثر أعضاء مجلس المحافظة شراء حواسيب متطورة (لابتوبات) كهدايا معقولة ومناسبة للمتفوقين. كم سيكلف اللابتوب الواحد؟ ألف دولار. لن يقبلوا بهذا. اللحاف أكبر حجماً وأرخص ثمناً. هكذا يفكرون.
عندما نحكي مثل هذه الوقائع فلسنا نقصد المزحة قطُّ. الامر أبعد كثيراً من نطاق المزحة السوداء الكئيبة لما آل إليه حال العراق. ليس لنا في العراق اليوم تقاليدُ محترمة لبناء الدولة. السبب في هذا أنّ القيّمين على السياسة لا يريدون بناء دولة رصينة، وحتى لو أرادوا فليست لهم القدرات الشخصية لبناء هذه الدولة. لم يكتفوا بإطاحة كلّ المواريث الرصينة للدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921؛ بل عمدوا لإشاعة الفوضى على كل المستويات. ثمّ أنّ الرغبة في العطاء المناسب (حتى لو كان من مداخيل الحكومة وليس من المداخيل الشخصية) ليست من خصائص الفاسدين سرّاق المال العام. أوقِنُ أنّ كثيراً من مانحي (اللحاف) رأوا فيه هدية كان من الممكن إختصارُها بهدية أقلّ ثمناً. من لا ينظرُ أبعد من حدود (جَيْبِهِ) لن يكون كريماً في يوم من الايام.
لو شئنا الحقيقة الناصعة فسنقول أنّ حكومات العراق المتعاقبة من سنوات التأسيس الاولى لم تبخل على العراقيين بما هو مستطاع ضمن موازناتها المالية التي تنامت مع السنوات. أذكر مثلاً التغذية المدرسية، وفحص عيون التلاميذ ووضع مراهم المضادات الحيوية (الانتيبيوتك) فيها منعاً لإصابتها بالتراخوما. وهل نسينا حملات التلقيح في المدارس؟ ذكرتُ أمثلة مخصوصة بقطاع المدارس والتعليم فحسب. كان الاوائل في الحقبة الملكية يُبتعثون لإكمال دراستهم خارج العراق، وكثيرٌ منهم أتموا البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في بريطانيا أو أمريكا. كان رؤساء الجمهورية في العهود اللاحقة يستقبلون الطلبة المتفوقين ويقدّمون لهم (لا أحب مفردة يكرّمونهم) هدايا ثمينة مناسبة. وها نحن اليوم ننتهي بمشهد (اللحاف) الهزيل.
تخيلوا معي المشهد التالي: ما الذي سيقوله أفراد عائلة المتفوقين عندما يختلون مع (اللحاف) الهزيل بعيداً عن الكامرات والمجاملات البائسة؟ ألم يحسب أعضاء مجلس المحافظة حساباً لهذا؟ هل سيعيدون ترديد القول البائس (الهدية ليست بثمنها بل بقيمتها الاعتبارية)؟ هذه أكاذيب فضلاً عن إساءتها للعراق. ماذا لو رأى العالم هذه المهزلة؟ أهكذا صارت سمعة العراق رخيصة مشاعة على ألسنة العالمين؟ هل العراق بلد فقير يعجز عن توفير هدايا بألف دولار للهدية الواحدة تُقدّمُ للطلبة المتفوقين؟ أقول ألف دولار وأنا خجلة من نفسي. الصحيح أن لا تقلّ الهدية الواحدة عن عشرة آلاف أو عشرين ألف دولار. ثم ألم يكن من المناسب أن يستقبل (رئيس الجمهورية) أو (رئيس الوزراء) أو الاثنان معاً هؤلاء المتفوقين ليقدموا لهم هدايا لائقة؟ يبدو أنّ مسؤولي البلد لم يفكّروا بهذا الامر، وهو أصلاً ليس على جدول اهتماماتهم المستعجلة.
الامر ليس وقفاً على متفوقي الاعدادية. أنظروا مثلاً جوائز الثقافة العراقية التي تقدّمها وزارة الثقافة. هي جوائز بائسة لا تتجاوز في كلّ فروعها (العشرة ربما) الخمسين ألف دولار؛ في حين أنّ جوائز الثقافة لدول الخليج المحيطة بنا تتجاوز أقيامها مئات ألوف الدولارات. لا أعرفُ كيف لا يشعر القيّمون على أمر الثقافة العراقية بالخجل من هذه الاقيام المتواضعة لجوائز الثقافة في بلد مثل العراق له تراثه الثقافي الضارب في التفوّق والريادة.
ألم تسمعوا بالقوة الناعمة؟ هل هكذا هان عليكم العراق وسمعتُهُ؟ إنّ القلب لينفطرُ وجعاً إذ يرى هذه المشاهد البائسة التي يرادُ لها أن تعكس الوضع الحضاري للعراق الذي كان مشروع دولة واعدة أكلت من جرفها الحماقات وأجهز على جسدها المعتلّ الجهلُ والتخلفُ والحقد.