TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > إلى أنظار السادة القضاة في العراق

إلى أنظار السادة القضاة في العراق

نشر في: 10 سبتمبر, 2024: 12:02 ص

علي المدن

بإلقاء نظرة سريعة على إحصائيات الزواج والطلاق في دول المنطقة يمكننا استنتاج أن الأزمة التي يعاني منها العراق في هذا الموضوع ليست خاصة به. لنلاحظ مثلا نسب الطلاق في إيران، وهي واحدة من أكثر المجتمعات في منطقتنا التي تعاني من هذه المشكلة: إن نسبة الطلاق في ايران تبلغ (٥٠) في المئة من حالات الزواج، وهي في الغالب بطلب من الزوجة، وهناك فقرة في القانون الإيراني تسهل هذه المطالبة، لأن المرأة هناك لها الحق بأخذ وكالة دائمة (أي غير قابلة للعزل) من الرجل في أول العقد تسمح لها بتطليق نفسها من زوجها متى تشاء، لذا فإن خيار الطلاق يبقى مفتوحا ومتاحا للمرأة في أي خلاف مهما بدا صغيرا، ولكن خلافات ما بعد الانفصال في إيران تختلف عما هو حاصل في العراق، ففي العراق تتركز الخلافات حول حق الحضانة، في حين أنها في إيران تتركز حول المطالبة بالمؤجل من المهر. إن قيمة المؤجل من المهور في إيران تصل إلى أرقام جنونية (مئات السكك الذهبية)، وسواء أكان التسديد عند الاستطاعة أو عند الطلب، فإن الرجل عليه بعد الطلاق أن يدفع هذا المبلغ الهائل كاملا، ومع عجز الرجل عن التسديد المباشر والسريع، يكون قد وضع نفسه بين خيارين: إما الدخول للسجن أو التسديد بالتقسيط، ولمدد زمنية طويلة جدا (ربما تبلغ العشرين عاما)، من هنا يقول الايرانيون تندّرا: ان الزواج عند النساء تحول الى مصدر كسب! فالمرأة تتزوج ثم تطلق نفسها ثم تحصل على ما يشبه الراتب التقاعدي. في العراق يحصل ما يشبه ذلك، ولكن الراتب يكون من هيئة الرعاية الاجتماعية، لذا فإن الخلافات تتجه نحو مشكلة أخرى، هي في الغالب مشكلة الحضانة.
إن الأجيال الجديدة نشأت على مفهوم الاستقلالية والحرية الشخصية، وثقافة العمل والدخل الخاص، ومع تنامي ضغوط الحياة وتزايد مشاعر الأنانية الفردية والسلوك المتطلب من قبل أحد طرفي الزواج، تنتهي أغلب الزيجات إلى الفشل والانفصال. الثقافة الاجتماعية (السكن مع الوالدين، تدخلات الأقارب، القيم المتصلة بمجتمع الرجال والنساء، وأمثال ذلك) تلعب دورا رئيسيا في هذا الموضوع.
الحلقة الأضعف هي القوانين. فالقانون لا يستطيع فعل الكثير ما لم يتم تفسيره والنطق به وتطبيقه من قبل السلطات المخوّلة بذلك، وهي هنا سلطة القضاء والقضاة. نستطيع أن نستنتج من ذلك، أن فكرة حل المشاكل من خلال تبديل القانون ليكون أكثر طائفية، ثم تصور أن المشاكل سوف تنتهي تلقائيا، كما يدعى البعض، ما هو في الواقع إلا نوع من الفهم التبسيطي للمشاكل التي نواجهها.
في تقديري أن مشاكل ما بعد الانفصال تنشأ في العراق من عاملين اساسيين:
١- أزمة استخدام القضاء لسلطته التقديرية.
٢- تشوه العلاقات الاجتماعية بالضغائن والمكائد والكراهية، وانشغال الطرفين المنفصلين بعداوات حقودة مفرطة في المرضية والقبح.
والعامل الأول أكثر تأثيرا من غيره.
إن المادة (٥٧) من قانون الاحوال الشخصية في العراق نصت على عدة أمور، منها:

  • ان الأم أولى بحضانة الطفل وتربيته.
  • ان للأب حق النظر في شؤون الطفل وتربيته وتعليمه.
    المشكلة الحقيقية هي في الموازنة بين هذين الحقين (حق الحضانة وحق النظر)، وهذه مسؤولية القضاء بالدرجة الأساس، لأنه الوحيد المسؤول عن تطبيق هذين الحقين في كل حالة تقع محلا للخلاف والنظر. لذا علينا أن نفهم تعريف القانون لقضيتين:
    ١- معنى الحضانة.
    ٢- معنى النظر في شؤون الطفل وتربيته وتعليمه.
    إن القانون العراقي لم يفسر هذين الحقين في القانون نفسه، ثم يزيد الطين بلة أن القانون استخدم مصطلحا واحدا في الحقين، وهو (التربية) فمن حق الأم (الحضانة والتربية) و من حق الأب (النظر في شؤون الطفل و "تربيته" وتعليمه)!!! وهذا الاشتراك يمثل مشكلة قاتلة في القانون ما لم يتم تفسيره بدقة، بل إن القوانين تتجنب استخدام المفردات المشتركة وتعد هذا عيبا كبيرا جدا، لأنه يفتح الباب واسعا للتأويل وتعدد التفاسير في حين أن من مهام القانون حسم الخلاف في التفسيرات.
    إن القضاء هنا ملزم - كما هو معروف - بالعودة إلى قواعد التفسير القضائي لبيان المقصود من الحقين المشار إليهما، وأيضا ملزم برفع الالتباس الحاصل من استخدام مصطلح واحد (هو مصطلح التربية) في حق الطرفين؛ الأم والأب.
    ولكن بعيدا عن قواعد التفسير القضائي الموكول إلى القضاء نفسه، ينبغي علينا الالتفات إلى قضية ذكرها القانون العراقي داخل قانون الأحوال, وهي أن مصادر هذا القانون هي الفقه الإسلامي والقوانين المدنية في جملة من الدول الإسلامية.
    إن الفقه يعطي معنى محددا للحضانة، وهي تولي ادارة شؤون الطفل فيما لا يستطيع ان يستقل فيه من الامور، كاحتياجاته في الأكل والشرب، ارتداء الملابس وتنظيمها، أوقات النوم ومواعيدها، والحمام والعناية بالنظافة الشخصية، واعراض الصحة والمرض والاشراف عليها، ابعاده عن مصادر الخطر (نار، ماء، كهرباء … الخ) …. وامثال ذلك. فهذه من صلب حق الأم بالحضانة، وذلك لأنها أرفق بالطفل من الأب، وهي أكثر صبرا وتحملا، وأدق تنظيما وتدبيرا في إدارة هذه الامور. ولان هذه الامور يومية وتستوعب الوقت كله، وعلى مدار سنوات، فإن الفقه أعطى الأم حق مبيت الطفل عندها طيلة هذه الفترة.
    اما مسألة النظر في شؤون الطفل الاخرى، وتربيته وتعليمه وتهذيبه والرقابة عليه في تصرفاته وأقواله وافعاله وعلاقاته … الخ، فهي - وفقا للفقه، الذي هو مصدر القانون العراقي - من حق الاب.
    من المؤكد أن للمشرع العراقي حقه بالنظر في كل هذه التعريفات، بل ومقارنتها بأحدث القوانين وفلسفاتها حول العالم، ثم الخروج بتعاريفه الخاصة. حينها قد لا يكون ضروريا أن يختلف معنى التربية بالنسبة للأم عنها بالنسبة للأب، إذ قد يكون هذا العنصر المشترك بين الطرفين مما يحتم عليهما التعاون في تطبيقه تحت إشراف المحاكم ومتابعتها الحازمة.
    من هنا نعرف أن حسم الفصل بين الطفل وأبيه (كما هو حاصل اليوم)، وتطبيق فقرة أن المرأة أولى بالحضانة بنحو حرفي وميكانيكي، يفقد القانون العراقي الحالي جانبه المرن وقدرته الكبيرة على استيعاب المشاكل بين الزوجين المنفصلين، ولن تتحول هذه المرونة والقدرة على الاستيعاب إلى واقع ما لم يضعهما القضاة موضع التنفيذ.
    إن السلطة التقديرية للقضاة الممنوحة لهم وفق القانون، والتي تصل إلى حد الحكم بفقدان أهلية الأبوين، وليس الأم فقط، حق الحضانة، لقادرة على خلق توازن في إدارة الحقين (حق الأم بالحضانة، وحق الأب في النظر في شؤون الطفل وتربيته وتعليمه). إن المقياس الأهم والأجل في تقدم المجتمع، أي مجتمع، ورقيه ونضجه، هو تطور القضاة ومرونتهم واتساع تجربتهم وخبرتهم وثقافتهم ووعيهم وذكائهم ونباهتهم، ناهيكم عن عدالتهم ونزاهتهم التي هي فوق كل شيء؛ وعليه فإن بداية إصلاح مشكلة الحضانة في العراق، وهي مشكلة اجتماعية جدية وخانقة وعرضة للاستغلال الديني والسياسي والثقافي، تبدأ بالقضاء والقضاة.
    وبناء على ذلك كله، فإنني أرى أن المطلوب الأول في العراق اليوم بخصوص هذا المشكلة الكبرى هو الارتقاء وتطوير آفاق السلطة التقديرية للسادة القضاة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: رواتب نواب جزر القمر

العمودالثامن: ألف نكتة ونكتة عن النزاهة!!

العمودالثامن: مثقفون مزيفون

اللعبة الطائفية الخطرة!

العمودالثامن: قاق .. قيق

 علي حسين وضعتُ هذا العنوان وأنا أتوقع أنْ يلومني البعض من القرّاء الأعزّاء على عدم احترامي لأصول المهنة، ومع كلّ المبرّرات التي سأطرحها عليكم، لأنني اخترت هذا العنوان، إلّا أنّ هناك من سيقول...
علي حسين

إنهاء الوجود العسكري التركي في الأرض العراقية؟

د. فالح الحمـراني على خلفية استمرار التناقضات والتنافس والخصومات بين القوى السياسية العراقية النافذة وتفاقم بعضها، والصعوبات الخطيرة التي تواجه الاقتصاد العراقي والمجالات المالية والاجتماعية، ما يزال الوضع الأمني في بعض مناطق البلاد صعب....
د. فالح الحمراني

إلى أنظار السادة القضاة في العراق

علي المدن بإلقاء نظرة سريعة على إحصائيات الزواج والطلاق في دول المنطقة يمكننا استنتاج أن الأزمة التي يعاني منها العراق في هذا الموضوع ليست خاصة به. لنلاحظ مثلا نسب الطلاق في إيران، وهي واحدة...
علي المدن

لماذا الفلسفة؟ومافائدتها؟

داميان ثيلير* ترجمة: عدوية الهلالي في أيامنا هذه، أصبحت الفلسفة ظاهرة جماهيرية. إنها موجودة في كل مكان:في المجلات، على الإنترنت، في المنتديات، على شاشات التلفزيون، في المقاهي. والفيلسوف نفسه لا يفلت من النجومية الإعلامية.،علاوة...
داميان ثيلير
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram