TOP

جريدة المدى > عام > الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

نشر في: 11 سبتمبر, 2024: 12:31 ص

لطفية الدليمي
جويس كارول أوتس واحدةٌ من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة تمتد لعقود طويلة. قرأتُ لها العديد من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب بل شخص متعدد الانشغالات: أستاذة جامعية متمرسة تشغل موقعاً مميزاً في جامعة برينستون النخبوية الامريكية منذ ما يقارب الاربعين عاما فضلاً عن كونها مترجمة وكاتبة مقالات وقصة قصيرة، وشاهدة على تحولات العصر الامريكي والعالمي. سبق وترجمت لها فصولا من كتابها: (إيمان كاتبة: الحياة –الحرفة – الفن) ونشرتها في ثقافية المدى.
أعرف من خبرتي الطويلة مع أوتس أنها تدرّسُ مادة الكتابة الابداعية Creative Writing في جامعة برينستون؛ لكني إندهشتُ إذ وجدتها تروّجُ لمقرر دراسي رقمي عنوانه MasterClass لا يكلفُ المرء سوى 15 دولاراً في الشهر، وتلك كلفة لا تعدُّ شيئاً مذكوراً بالمقارنة مع آلاف الدولارات التي يتطلبها القبول في برنامجها الدراسي بجامعة برينستون. الامر لا يحصل بمحض صدفة أو توجهات رغبوية منفلتة. لا تجري الامور على هذا النحو في المجتمعات المتقدمة تقنياً وعلمياً. ثمة أمور دافعة لمثل هذه التحولات الدرامية في نمط التعليم الجامعي وسرعة إنفتاحه على التقنيات الرقمية. أظنُّ أنّ جواباً وافياً وجدته في كتاب منشور أواخر عام 2023 كتبه البرفسور مايكل دي. سمث Michael D. Smith، عنوانه:
الجامعة المتاحة للجميع: إعادة تشكيل التعليم العالي ليتناغم مع عالم رقمي
The Abundant University: Remaking Higher Education for a Digital World
يعمل مؤلف الكتاب أستاذاً للتقنية المعلوماتية والتسويق بجامعة كارنيغي- ميلون الامريكية، وهو مولع بدراسة الكيفيات التي يمكن عبرها للتقنيات الجديدة (وبخاصة تقنيات صناعة الترفيه) لعبُ الادوار العظيمة في قدرة التأثير على الافراد والشركات معاً. الكتاب من منشورات معهد ماساتشوستس التقني، وتلك إشارة إضافية على جدّية التغيير الرقمي الذي سيطال التعليم العالي في الولايات المتحدة الامريكية والعالم بأسره. معهد MIT هو أقرب إلى الاب الاكبر- أو المطبخ التقني الاعظم لو شئت- للتقنيات الحديثة، وسيكون لأي كتاب منشور عنه يبشرُ بالثورة الرقمية القادمة وقعٌ عظيم لا يمكن التغافل عنه.
المدهش في مقدّمة الكتاب أنها تقدّمُ جواباً لتساؤلي السابق. يؤكدُ المؤلف أنّ التعلّم من خبرة أوتس بطريقة مباشرة وبالكيفية الجامعية التقليدية تعدُّ إمتيازاً عظيماً تحظى به قلّة مخصوصة فحسب؛ ولكي يوضّح المؤلف الاسباب التي تقف وراء هذا يورد إحصائيات مثيرة: تقدّم عام 2021 بطلبات الدراسة في مقرّر أوتس للدراسة الابداعية (37,601) متقدماً قبِل منهم (1498) أي بما نسبته المئوية 3,98%، وهي نسبة ضئيلة للغاية. هذه النسبة الشحيحة ستعمل -مثلما عملت في عقود سابقة- على ترسيخ سياسات الشحّة Scarcity Policies في التعليم الجامعي، ومن بعض مفاعيل هذه السياسات أنّ المرء يضطرُّ إلى التضحية بمال كثير مشفوعاً بتوصيات عديدة تؤكّدُ قدرته وتفوقه على الآخرين واستكماله لشروط البرنامج الدراسي الذي يريد الالتحاق به. تطلب الالتحاق ببرنامج أوتس في الكتابة الابداعية لعام 2021 (وهو جزء من المتطلبات المالية للالتحاق بجامعة برينستون) 80,000 دولار في السنة!! إلى جانب متطلبات أخرى مجهدة. تغيّر الامر عندما أعلنت أوتس عن برنامجها الدراسي MasterClass لتعليم فن القصة القصيرة لقاء 15 دولاراً في الشهر. وفرة في المادة التعليمية ووسائط إكتسابها مقابل شحة في الدولارات التي يدفعها المرء. يبدو انّ السياسة التعليمية الجامعية إنعكست؛ إذ بهذه الدولارات الشحيحة يمكن للراغب ولوجُ تجربة تعليمية عالمية مرموقة المواصفات، متاحة كل حين وفي كلّ مكان، باستخدام هاتف ذكي أو حاسوب محمول أو أي مشغل وسائط رقمية أخرى. ربما لن يحصل المنخرطون في هذه التجربة التعليمية الرقمية على ذات الخبرة التي سيحصلون عليها لو حضروا الصفوف الدراسية التي تحاضر فيها أوتس شخصياً. هذا صحيح، وصحيحٌ أيضاً أنّ أوتس لن تخصص لهم من وقتها مثلما تفعل مع طلبتها في برينستون؛ لكن تبقى التجربة الرقمية مثيرة وواعدة بالكثير من النتائج الطيبة. هذا ما يؤكّده الكثير ممّن حضروا الصفوف الرقمية. أحدُ مؤشرات نجاح التجربة أنّ كثيراً من كتّاب الرواية العالميين جعلوا من أوتس نموذجاً صالحاً للتمثل والمحاكاة، ومن هؤلاء: مارغريت آتوود، مالكولم كالدول، آمي تان. لم يقتصر الامر على كُتّاب الرواية؛ فهناك مثال عالم الاقتصاد المميز بول كروغمان، وأستاذة التاريخ الامريكي دوريس كيرنس غودوين، وأستاذ الصحافة الشهير بوب وودوورد المعروف بحنكته الاستقصائية اللامعة.
ينتابُ الكثيرَ منّا العديد من الشكوك والريبة بشأن قدرة التعليم الجامعي الرقمي، ولنا معاذيرنا المسوّغة لشكوكنا. لو وضعنا جانباً أننا نميل لمعاكسة كلّ إنعطافة تقنية بفعل ضواغط التقاليد الراسخة فإنّ الامر يتطلبُ بعض المراجعة التاريخية. ظلّت الجامعات والكليات عبر القرون الخمسة الماضية (دعونا نتذكر أنّ جامعتي أوكسفورد وكامبردج تأسستا بدايات القرن الثالث عشر!!) مؤسسات تتمتع بإستقرارية راسخة كونها جزءاً من الحكاية الوطنية National Story لكلّ بلد تأسست فيه، وفي هذا الشأن يورد كلارك كير، وهو رئيس سابق لإحدى جامعات كاليفورنيا، أنّ الجامعات والكليات كانت بين القلة القليلة من المؤسسات الخمس والثمانين التي بقيت محافظة على هيكليتها الاساسية منذ عام 1520؛ لذا كانت لها كلّ السطوة الثقافية والهيمنة الفكرية التي عُرِفَت بها. من الواجب والبديهي أن نتساءل: كيف حافظت الكليات والجامعات على سطوتها الثقافية والفكرية كل هذه القرون؟ الجواب يكمن في إدارتها لسياسة الشحة واعتمادها نموذجاً يقوم على الشحة. يتأسس نموذج الشحة الجامعية على معالم ثلاثة:
المَعْلَم الاول: شحة المدخلات الجامعية (محدودية أعداد الطلبة المقبولين بالمقارنة مع اعداد المتقدمين للدراسة، محدودية أعداد الدارسين في الصف الدراسي)
المَعْلَم الثاني: شحة الوسائل التعليمية (محدودية أعداد خبراء التعليم والاساتذة الجامعيين المؤهلين تأهيلاً عالياً)
المَعْلَم الثالث: شحة المخرجات الجامعية (محدودية اعداد حملة الشهادات الجامعية بالمقارنة مع غير الحاصلين عليها، محدودية اعداد الجامعات والكليات ذات الشهرة العالمية)
عنوان التعليم الجامعي الكلاسيكي هو الشحة، وهذه الشحة يراها راسمو سياسات التعليم العالي وسيلة تنافسية تُبقي على جذوة الرغبة في التعلّم متّقدة في الارواح بعيداً عن الابتذال والاستسهال اللذين يوهنان الارواح الفتية. من الطبيعي أن قانون حصر التعليم العالي بين قلّة منتخبة سيكون هو السياسة المتبعة لعدم قدرة التعليم الجامعي المتّسم بالشحة على الايفاء بكلّ الاحتياجات التعليمية للجميع. هل نتخيل المشهد الجامعي في ظلّ سياسات الشحة؟ أعداد هائلة من الراغبين في التعليم الجامعي الاولي والعالي ستتقاتلُ على مقاعد محدودة، وسيدفع هذا الامر لزيادة الاقساط الجامعية سنوياً حتى بلغت مستويات فلكية. إنها سياسة العرض والطلب التي تعمل بكلّ قوتها طبقاً للاقتصاد الكلاسيكي. يكفي أن نعلم بأنّ الخريجين الامريكيين لعام 2020 حملوا على أكتافهم عبء قروض جامعية بلغت 1,7 تريليوناً من الدولارات، وهنا لن يكون غريباً أن نفهم السبب في كون هذه القروض عُرضة للألاعيب الانتخابية الامريكية تماماً مثل برامج الرعاية الصحية.
صار من الواضح لصانعي السياسات التعليمية الجامعية في أمريكا أنّ النظام الجامعي الحالي يفشل، ومعالمُ هذا الفشل تكمنُ في ابتعاده عن تمثل الحدّ الادنى من العدالة والمساواة بين المتقدمين لأنّه يحابي المقتدرين مالياً دون سواهم وبخاصة في نطاق جامعات النخبة Ivy League، ثمّ هناك الاستطلاعات الحديثة التي أبانت أنّ 11% فحسب من قادة الاعمال يرون أنّ خريجي الجامعات الامريكية يفون بمتطلبات دفع عجلة التقدم التقني والمالي في مشاريعهم الكبرى. الجامعات والكليات الامريكية بتكاليفها الفلكية صارت على المحكّ القاسي ولا بدّ في الاقل من مراجعة السياسات الجامعية. هنا من المفيد أن نتذكّر بأنّ أقطاب التقنيات الامريكية الرقمية لم يكملوا دراساتهم الجامعية بصورة نظامية؛ الامر الذي جعل منهم نماذج ايقونية كبرى يسعى الشباب الامريكي لمحاكاة تجاربها. ما البديل المناسب والاكثر معقولية ومقبولية والاقل كلفة والانسب للإحتياجات الشخصية من التعليم الجامعي التقليدي؟ إنه التعليم الرقمي بلا شك. هذه هي كل الحكاية ببساطة.


يمكن تلخيص فكرة الكتاب في المؤشرات الاربعة التالية:

  1. نظام التعليم العالي الحالي لم يعد ممكناً إدامته مالياً وأخلاقياً
  2. معضلة التعليم العالي الحالي هيكلية؛ بمعنى ليس بالمستطاع علاج أمراضه باللجوء إلى نموذج الشحة. لا بدّ من نموذج وفرة Abundance بديل عن الشحة
  3. التقنيات الرقمية تمثل إنعطافة ثورية تتيح لنا اعتماد نظام تعليم جامعي بديل يقوم على الوفرة
  4. للمساهمة في الثورة التعليمية الجديدة يجب على العاملين في التعليم الجامعي إعادة تشكيل رؤاهم للتعليم الجامعي بغية تعظيم مشاركتهم فيه بدلاً من أن يكونوا عصىً تعيق مساره. التغيير قادم لا محالة، ومن المفيد للجميع تسهيل أمر التحول بأقلّ التكاليف الممكنة.

قد يبدو الكتاب غارقاً في المحلية الامريكية؛ لكنه يحكي حكاية سنواجهها جميعاً أينما كنا، وسيكون من المفيد التحسّبُ لها ومواجهتها والاستفادة العظمى من تجارب من سبقونا في التعامل معها.
عنوان الكتاب:
The Abundant University: Remaking Higher Education for a Digital World
مؤلف الكتاب: مايكل دي. سمث
الناشر: مطبعة MIT
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 296

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

شخصيات أغنت عصرنا . . الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف

موسيقى الاحد: بوكستهوده في هلسنيور

المعماري خالد السلطاني وذكرياته عن غائب طعمه فرمان

متحف ليف تولستوي يستضيف دارسيه ومترجمي أعماله للغات الأجنبية

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

مقالات ذات صلة

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة
عام

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

لطفية الدليميجويس كارول أوتس واحدةٌ من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة تمتد لعقود طويلة. قرأتُ لها العديد من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب بل شخص متعدد الانشغالات: أستاذة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram