TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

نشر في: 12 سبتمبر, 2024: 12:01 ص

محمد الربيعي

(الحلقة 5)
التجربة الفنلندية
فنلندا، الواقعة في شمال اوروبا، احدى الدول الاسكندنافية عاصمتها هلسنكي. تتميز بجمال طبيعتها الخلابة وكثرة بحيراتها وغاباتها. تعرف فنلندا ايضا بثقافتها الغنية وتاريخها العريق، بالاضافة الى كونها واحدة من اكثر الدول استقرارا وازدهارا في العالم.
فنلندا، بلد غني بالإصلاحات الفكرية والتعليمية على مر السنين الماضية، اختبرت عددا من التغييرات الجديدة والبسيطة التي احدثت ثورة كاملة في نظامها التعليمي. انها اليوم تتصدر تقيمات الاداء التعليمي العالمية.
تقود فنلندا الطريق بسبب الممارسات الطبيعية السليمة وبيئة التدريس الشاملة التي تسعى جاهدة لتحقيق المساواة وتفضيلها على التميز.
فيما يلي بعض الاختلافات عن الانظمة التعليمية الاخرى وألاسباب التي قد تكمن وراء تفوق النظام الفنلندي على الساحة العالمية.
معايير عالية للمعلمين
في فنلندا، تم تحديد معايير عالية جدا للمعلمين، مما يجعل نظام التعليم الفنلندي متميزا على مستوى العالم. لا يوجد نظام "درجات" صارم للمعلمين، حيث يعتمد على الثقة والاحترافية بدلا من المساءلة الصارمة. في الواقع، لا توجد كلمة تشير إلى "المساءلة" في نظام التعليم، حيث يعتبر ان المساءلة تأتي بشكل طبيعي بعد تحمل المسؤولية. يجب على جميع المعلمين في المدارس الابتدائية والثانوية في فنلندا الحصول على درجة الماجستير قبل دخول المهنة، مما يضمن مستوى عال من الكفاءة والمعرفة. ويتلقى المعلمون تدريبا مكثفا يشمل الجوانب النظرية والعملية لتحسين العملية التعليمية باستمرار. مهنة التدريس تعتبر من اكثر المهن صرامة وانتقائية وأهمية في البلد بأكمله، حيث يتم اختيار المعلمين بعناية فائقة لضمان تقديم أفضل تعليم ممكن للطلاب. هذا التركيز على الجودة والاحترافية ساهم في تحقيق نتائج تعليمية متميزة وعزز مكانة فنلندة كواحدة من افضل الدول في التعليم.
لا يوجد امتحان موحد
الامتحان الموحد هو الطريقة الشاملة التي يتم بها اختبار الطلبة لمعرفة درجة فهم المواد الدراسية. من المفترض أن تكون الإجابة على الأسئلة الجاهزة بطريقة ما وسيلة لتحديد اتقان او على الأقل الكفاءة في موضوع ما. ما يحدث غالبا هو أن الطلاب يتعلمون الحفظ فقط لاجتياز الامتحان ويقوم المعلمون بالتدريس لغرض وحيد هو تمكين الطلاب من اجتياز الامتحان.
لا يوجد في فنلندا امتحانات موحدة من هذا القبيل. استثناءهم الوحيد هو امتحان شهادة الثانوية العامة الوطني، وهو امتحان تطوعي للطلاب في نهاية المدرسة الثانوية العليا. يصنف جميع الطلاب في جميع انحاء فنلندا على اساس فردي ويتم تعيين نظام الدرجات من قبل معلمهم. ويتم تتبع التقدم الاجمالي من قبل وزارة التربية والتعليم، والتي تعتمد على دراسة عينات من مجموعات عبر مستويات مختلفة من الطلاب والمدارس.
ومن الاسباب والاثار الايجابية لهذا النهج تطوير مهارات التقييم الذاتي مما يساعد على فهم نقاط قوة وضعف الطلاب والعمل على تحسينها بشكل مستمر. ويتم تقييم الطلاب بناء على قدراتهم الفردية، مما يعني ان كل طالب يتعلم وفقا لسرعته الخاصة. كما ان عدم وجود امتحانات موحدة يقلل من الضغط النفسي على الطلاب، مما يخلق بيئة تعليمية اكثر استرخاء وايجابية ويساعد الطلاب على التركيز على التعلم بدلا من القلق بشأن الامتحانات.
التعاون لا المنافسة
بينما يرى معظم التربويين في العالم النظام التعليمي على أنه نظام يعتمد على المنافسة بدرجة كبيرة، يرى الفنلنديون الأمر بشكل مختلف. هناك قول مأثور: "الفائزون الحقيقيون لا يتنافسون" يعكس فلسفة التعليم الفنلندية التي تركز على التعاون والتعلم الجماعي بدلا من التنافس الفردي. في هذا السياق يعتبر النجاح الحقيقي هو القدرة على التعلم والتطور بشكل مستمر، وليس مجرد التفوق على الاخرين في الامتحانات.
ومن المفارقات ان هذه السياسات وضعت فنلندة على رأس المجموعة الدولية. لا يقلق النظام التعليمي في فنلندا بشأن الأنظمة القائمة على الجدارة، ولا توجد قوائم للمدارس أو المعلمين الأفضل اداء ولا توجد جوائز او مكافئات لهم. انها ليست بيئة تنافسية - بدلا من ذلك، التعاون هو القاعدة.
جعل الأساسيات أولوية
تهتم العديد من الأنظمة المدرسية بزيادة درجات الامتحان والفهم في الرياضيات والعلوم واللغات، وتميل الى نسيان ما يشكل بيئة تعليمية غير مملة ومتناغمة وصحية. قبل سنوات عديدة ركز البرنامج الذي وضعته فنلندا على الأساسيات. لم يكن الأمر يتعلق باهمية الحصول على درجات ممتازة. بدلا من ذلك، سعوا الى جعل البيئة المدرسية مكانا أكثر انصافا واستمتاعا. ومنذ الثمانينيات ركز النظام التعليمي الفنلندي على جعل الأساسيات التالية اولوية:
ــ يجب ان يكون التعليم اداة لتحقيق المساواة الاجتماعية
ــ يحصل جميع الطلاب على وجبات مدرسية مجانية
ــ سهولة الحصول على الرعاية الصحية
ــ الارشاد النفسي
ــ التوجيه الفردي
بدء المدرسة في سن أكبر
هنا بدأ الفنلنديون مرة اخرى بتغيير التفاصيل المعتادة في الدول الاخرى. يبدأ الطلاب في الالتحاق بالمدرسة عند بلغوهم سن السابعة، حيث تمنح لهم الحرية خلال سنوات الطفولة المبكرة دون قيود التعليم الالزامي. هذا النهج يهدف الى السماح للأطفال بأن يعيشوا طفولتهم بشكل كامل. التعليم الالزامي في فنلندا يستمر لمدة تسع سنوات فقط، وبعد الصف التاسع او عند بلوغ سن 16، يصبح التعليم اختياريا.
توفير خيارات مهنية بعد شهادة جامعية تقليدية
في فنلندا، يتم حل معضلة المعدلات واختيار الكليات من خلال توفير خيارات تعليمية متساوية القيمة للطلاب لمواصلة تعليمهم. لا يوجد تمييز كبير بين خريجي الجامعات وخريجي المدارس التجارية والمهنية، حيث يمكن لكلا المسارين أن يكونا مهنيين ومقبوليين بنفس القدر.
في فنلندا، توجد المدرسة الثانوية العليا، وهي برنامج مدته ثلاث سنوات يعد الطلاب لامتحان شهادة الثانوية العامة الذي يحدد قبولهم في الجامعة. يعتمد هذا القبول عادة على التخصصات والخبرة التي اكتسبوها خلال فترة وجودهم في المدرسة الثانوية. بالاضافة إلى ذلك، هناك التعليم المهني، وهو برنامج مدته ثلاث سنوات ايضا، يقوم بتدريب الطلاب على مختلف المهن. طلاب هذا البرنامج لديهم خيار إجراء امتحان شهادة الثانوية العامة اذا كانوا يرغبون في التقدم الى الجامعة بعد ذلك.
اوقات دراسية مريحة تعزز التفكير النقدي
في فنلندا، يقضي الطلاب ايامهم الدراسية في بيئة تشجع على التفكير النقدي والتحليلي. يبدأ اليوم الدراسي عادة بين الساعة 9:00 و9:45 صباحا، حيث اظهرت الأبحاث ان البدء المبكر يؤثر سلبا على رفاهية الطلاب وصحتهم ونضجهم. لذلك، تبدأ المدارس الفنلندية اليوم في وقت لاحق وتنتهي عادة بين الساعة 2:00 و2:45 بعد الظهر.
بدلا من الاعتماد على نظام حشو المعلومات او التلقين، تركز المدارس الفنلندية على توفير بيئة تعليمية شاملة. يتم تشجيع الطلاب على التفكير النقدي والتحليلي، مما يساعدهم على تطوير مهارات حل المشكلات والتفكير المستقل. هذا النهج يعزز من قدرة الطلاب على فهم المواد الدراسية بعمق وتطبيقها في حياتهم اليومية، بدلا من مجرد حفظ المعلومات.
بيئة تعليمية داعمة وشخصية
في المدارس الفنلندية، يكون عدد المعلمين والطلاب في كل مدرسة قليلا نسبيا، مما يجعل الفصول الدراسية تضم عددا اقل من الطلاب. غالبا ما يبقى الطلاب مع نفس المعلم لمدة تصل الى ست سنوات، مما يسمح للمعلم بأن يصبح مرشدا لهم. خلال هذه الفترة، تتطور الثقة والعلاقة المتبادلة بين المعلم والطلاب، مما يؤدي الى فهم واحترام متبادل.
نظرا لاختلاف احتياجات واساليب التعلم لكل طالب، يتم تقديم الرعاية والاهتمام بشكل فردي. يستطيع المعلمون في فنلندا تحديد احتياجات كل طالب بدقة، مما يمكنهم من التخطيط بعناية لمساعدة الطلاب على تحقيق اهدافهم التعليمية.
جو دراسي اكثر استرخاءا
في فنلندا، هناك توجه عام نحو تقليل الاجهاد والتنظيم في المدارس، مع التركيز على توفير بيئة أكثر رعاية. عادة ما يكون لدى الطلاب فصلين فقط في اليوم، مع فترات متعددة لتناول الطعام والاستمتاع بالأنشطة الترفيهية والاسترخاء. تتخلل اليوم فترات قصيرة تتراوح بين 15 إلى 20 دقيقة، حيث يمكن للأطفال النهوض والتمدد والاستمتاع بالهواء النقي وتخفيف الضغط.
هذه البيئة ليست مخصصة للطلاب فقط، بل يحتاجها المعلمون ايضا. توجد غرف مخصصة للمعلمين في جميع أنحاء المدارس الفنلندية، حيث يمكنهم الاسترخاء والاستعداد لليوم او التفاعل مع زملائهم. الراحة ضرورية للمعلمين ليتمكنوا من أداء وظائفهم بأفضل ما لديهم.
واجبات منزلية أقل
وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لدى الطلاب في فنلندا اقل قدر من العمل الخارجي والواجبات المنزلية مقارنة بأي طالب اخر في العالم. انهم يقضون نصف ساعة فقط في اليوم في العمل على واجبات من المدرسة. ومع ذلك، فأنهم يتفوقون في الأداء على طلبة البلدان التي لديها ساعات طويلة من الدراسة ما بين المدرسة والمنزل.
يحصل الطلاب الفنلنديون على كل ما يحتاجون اليه لانجازه في المدرسة دون الضغوط الاضافية التي تأتي مع التفوق في مادة ما ودون الحاجة الى القلق بشأن الدرجات والعمل المزدحم، ويمكنهم التركيز على المهمة الحقيقية - التعلم والنمو كأنسان طبيعي.
الخلاصة
يتميز نظام التعليم في فنلندا بعدة ايجابيات، منها التركيز على رفاهية الطلاب والمعلمين، والاعتماد على الاستقلالية في التدريس، وتوفير بيئة تعليمية داعمة ومريحة. التعليم مجاني في جميع المراحل، مما يضمن تكافؤ الفرص للجميع. كما ان النظام يشجع على التعلم الذاتي والتفكير النقدي ويقلل من الضغط النفسي على الطلاب من خلال تقليل الواجبات المنزلية والامتحانات. في نظام التعليم الفنلندي، يعتبر تقليل التنافسية ايجابيا لأنه يعزز التعاون بين الطلاب ويقلل من الضغط النفسي، بينما في الأنظمة التعليمية الأخرى، ينظرالى انخفاض التنافسية كعامل سلبي لأنه قد يقلل من الدافع الشخصي لتحقيق اداء افضل.
بشكل عام، يوفر النظام التعليمي في فنلندا بيئة تعليمية مريحة وداعمة، لكنه يواجه بعض التحديات التي تحتاج الى معالجة لتحقيق افضل النتائج الممكنة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. حسين خضير الطائي

    منذ 2 شهور

    اجعل التعليق عنوان المقال كيف نستفيد من خبرات وتجارب الآخرين وخصوصا من يوصف نظامه التعليمي بالجودة الذي تحقق بعد إصلاحات واصلاحات نختصر بها الزمن ونعتمد مسار ناجع..هذا المقال. سالة مهمة لصناعة السياسة ومتخذي القرار في القطاع التربوي والتعليمية

  2. د.عبد الجليل البدري

    منذ 2 شهور

    اني من المتابعين لكل هذه الحلقات ،عاشت الايادي بروفسور محمد الربيعي. لرب عمل استبيان لتطبيق هذه الافكار بما يتلائم مع واقعنايكمن الحل ،من خلال ارساله الى جميع مديريات التربية في العراق تحت عنوان " افكار التعليم في فلندا" لا ادري هل تلقى الاستجابة ام لا ؟

  3. كاظم الحداد

    منذ 2 شهور

    أحسنت دكتور على تزويدنا بمثل هذه البرامج التعليمي الحيوية والمحفزة لخلق أجواء علمية وتربويّة والتي نفتقرها في بلدنا. تذكرني مجالات التعليم في فلندا بمثلها او شبيهة في البرامج الدراسية عندما كان الاتحاد السوفيتي وانت ذكرت بعض النقاط التطويرية.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram