د. طلال ناظم الزهيري
تحملنا الذكريات أحيانًا إلى أيام الدراسة الابتدائية تلك المرحلة التي شكّلت الأساس في علاقتنا مع التعلم. وبين الملل والمتعة مررنا بمواقف تجعلنا نتساءل: كيف يمكن أن يتحول التعليم من عبء ثقيل إلى تجربة إبداعية ممتعة. فبصرف النظر على المستوى الدراسي الذي وصلنا اليه نجد انفسنا جميعنا نستذكر تلك الايام ونتمنى ان نعيشها مرة اخرى . لكن هذا لايعني اننا في وقتها كنا شغوفين في الذهاب إلى المدرسة. التي كانت للكثير منا كأطفال أشبه بكابوس يومي. كنا نكره الاستيقاظ مبكرًا نكره الابتعاد عن فترات اللعب والراحة. ومع ذلك كانت هناك لحظات استثنائية، عشر دقائق بين الحصص نحيا فيها بحرية ونستكمل فيها ما بدأناه في الفرص السابقة من العاب غير منتهية او خصومات مؤجلة!. حتى يرن جرس الدرس الخامس للننطلق من الصفوف بصراخ جمعي وكاننا حشد من (الفايكنك) يغزو البوابة الرئيسية للمدرسة.
وعلى هذا الحال يتكرر المنوال. لنجد انفسنا بعد ان اكتسبنا مهارة القراءة والكتابة وبعض العمليات الحسابية امام تحدي جديد و واجبات اضافية تتطلب المزيد التركيز و الجهد الفكري عندها ننتقل من مرحلة المتعة إلى مرحلة الملل. و لاشك ان شعور الملل محبط للغاية وقد يعطل حواسنا للدرجة التي تصبح معها عقولنا قدور مغلقة. وقد يمتلك البعض الارادة والعزيمة لكسر حاجز الملل ذاك مدفوعين بعوامل ورغبات كثيرة و هذا البعض حتى وان تفوق دراسيا يبقى الشعور بالملل ملازم له ولكنهم وجدو طريقة للتعايش معه واحداث ثقب في غطاء القدر . وبعد أن عشنا تلك المرحلة الممتعة والمحملة بالتحديات انتقلنا إلى مرحلة أخرى أكثر تعقيدًا: التعليم الجامعي. وهنا يجد الكثير منا أنفسهم أمام تخصصات لم تكن خيارهم وسط أساليب تعليم جامدة مما يزيد من حدة الملل ويفقدهم الرغبة في الإبداع. لكن الآن وبعد مرور السنوات ومع تقدم التكنولوجيا وتغير أساليب التعليم نتساءل: كيف يمكن أن يكون التعلم ممتعًا؟ وكيف نخلق رحلة إبداعية تخرجنا من دائرة الملل إلى فضاء المتعة والتشويق.؟ لاشك ان هذه الغاية تحتاج الى رؤية وتخطيط استراتيجية بعيد المدى لتحقيق التحول الكامل في نمط التعليم الجامعي في العراق ومن منظور الشخصي اجد ان تتبع الخيارات التالية معم جدا لتحويل الملل الى متعة . على سبيل المثال:
1.تخصيص التعليم بمعني تحويل تجربة التعليم الجامعي لتلائم احتياجات واهتمامات كل طالب بشكل فردي. بدلًا من النهج الموحد حيث يتم تصميم برامج تعليمية مرنة تتيح للطلاب المشاركة في اختيار مسارهم الأكاديمي بناءً على اهتماماتهم وقدراتهم. يمكن تحقيق ذلك من خلال استطلاعات أو تقنيات الذكاء الاصطناعي لفهم تفضيلات الطلاب وتقديم مواد دراسية تتوافق مع ميولهم.
- التعلم القائم على المشاريع يحوّل التعليم الجامعي إلى تجربة عملية حيث يطبق الطلاب المفاهيم النظرية في مشروعات واقعية. بدلاً من الحفظ يركز هذا النهج على التفكير النقدي والعمل الجماعي لحل مشكلات أو تحقيق أهداف مرتبطة بتخصصاتهم. على سبيل المثال قد يطور طلاب الهندسة نموذجًا أو برنامجًا أو يعمل طلاب العلوم الإنسانية على بحث أو تنظيم فعالية. هذا الأسلوب يعزز المهارات العملية ويربط التعليم بالعالم الواقعي مما يزيد من تحفيز الطلاب ويجعل العملية التعليمية أكثر تشويقاً.
- الدمج بين التكنولوجيا الحديثة وأساليب التدريس يحوّل التعليم الجامعي إلى تجربة تفاعلية ومتطورة. باستخدام أدوات مثل الذكاء الاصطناعي الواقع الافتراضي ومنصات التعلم الإلكتروني يمكن للطلاب التفاعل مع المحتوى بشكل أعمق وأكثر تخصيصًا. على سبيل المثال يمكن استخدام الواقع الافتراضي لمحاكاة تجارب علمية أو الذكاء الاصطناعي لتقديم توصيات تعليمية مخصصة. هذا الدمج يجعل العملية التعليمية أكثر ديناميكية ويعزز من قدرة الطلاب على استيعاب المعلومات وتطبيقها بطرق مبتكرة. كما يُمكّن الأساتذة من تتبع تقدم الطلاب بشكل أدق وتقديم الدعم الفوري مما يحفّز الطلاب ويحول التعليم إلى تجربة ممتعة وشخصية.
- تشجيع التعاون الجماعي والتعلم الاجتماعي يساهم في جعل التعليم الجامعي أكثر تفاعلاً وتكاملاً. من خلال العمل ضمن مجموعات يتعلم الطلاب كيفية تبادل الأفكار حل المشكلات بشكل جماعي والاستفادة من تجارب وآراء زملائهم. هذا النهج يعزز مهارات التواصل والعمل الجماعي ويخلق بيئة تعليمية تعتمد على المشاركة بدلاً من التنافس. على سبيل المثال يمكن للطلاب العمل على مشاريع جماعية أو مناقشة مواضيع أكاديمية في مجموعات صغيرة مما يساعد على بناء فهم أعمق للمادة من خلال النقاش والتفاعل. هذا الأسلوب يخلق إحساسًا بالانتماء ويزيد من تحفيز الطلاب حيث يشعرون بأنهم جزء من مجتمع تعليمي داعم ومتعاون.
- تحديث وإعادة هيكلة المناهج الجامعية من خلال تحويل المحتوى الأكاديمي ليشجع الطلاب على التفكير بطرق غير تقليدية وحل المشكلات بشكل مبتكر. بدلاً من التركيز فقط على حفظ المعلومات يتم دمج مهارات التفكير النقدي والإبداعي في تصميم الدروس والأنشطة. على سبيل المثال يمكن تضمين مشروعات بحثية تتطلب من الطلاب تحليل قضايا معقدة وتقديم حلول مبتكرة أو تنظيم ورش عمل تركز على التفكير التصميمي وحل المشكلات. كما يمكن إدخال دروس تهدف إلى تطوير مهارات التفكير النقدي من خلال مناقشات وتحليلات حالات دراسية. هذا التغيير يجعل التعليم أكثر تحديًا وتحفيزًا مما يعزز قدرة الطلاب على التفكير بشكل مستقل وإبداعي.
- التعلم التجريبي والميداني يحوّل التعليم الجامعي إلى تجربة عملية تتجاوز الفصول الدراسية التقليدية. من خلال إشراك الطلاب في تجارب ميدانية واقعية يتمكنون من تطبيق ما تعلموه في بيئات حقيقية مما يعزز فهمهم ويجعل التعلم أكثر واقعية. على سبيل المثال يمكن للطلاب في مجالات العلوم والهندسة إجراء تجارب في مختبرات متقدمة أو العمل في مواقع ميدانية بينما يمكن لطلاب العلوم الاجتماعية زيارة مؤسسات مجتمعية أو إجراء أبحاث ميدانية. هذه الأنشطة تجعل التعلم أكثر تشويقاً وتفاعلاً مما يساعد الطلاب على ربط المعرفة النظرية بالتطبيق العملي ويزيد من تحفيزهم للتفوق والابتكار.
- إدخال الألعاب والمسابقات التعليمية في المقررات الجامعية يُضيف عنصر التفاعل والمتعة إلى العملية التعليمية مما يعزز من اندماج الطلاب وتحفيزهم. الألعاب التعليمية تستخدم تقنيات اللعب لتحفيز التعلم من خلال التحديات والمكافآت مما يجعل التعلم أكثر جذبًا وإثارة. على سبيل المثال يمكن دمج ألعاب محاكاة لتعليم مفاهيم معقدة في مجالات مثل الاقتصاد أو العلوم أو استخدام الألغاز والاختبارات التفاعلية لتعزيز فهم الطلاب لمواد معينة. يمكن أيضًا استخدام ألعاب الفرق لتعزيز التعاون وحل المشكلات بشكل جماعي. هذه الطريقة تجعل التعلم أكثر تفاعلاً وممتعًا مما يساعد الطلاب على فهم المعلومات بشكل أعمق ويزيد من تحفيزهم لتحقيق النجاح الأكاديمي.
- إعادة التفكير في أساليب التقييم تعني تحديث طرق قياس تعلم الطلاب لتكون أكثر شمولية وتناسبًا مع الأهداف التعليمية الحديثة. بدلاً من الاعتماد فقط على الامتحانات التقليدية يتم تبني أساليب تقييم متنوعة تعكس قدرات الطلاب بشكل أفضل. على سبيل المثال يمكن دمج التقييمات العملية مثل المشاريع الفردية والجماعية حيث يطبق الطلاب المفاهيم النظرية في سياقات واقعية. كما يمكن استخدام التقييمات التكوينية مثل التقييمات الذاتية والتقييمات بين الأقران لتعزيز التفكير النقدي والتحليل. هذه الأساليب تتيح للطلاب فرصة لإظهار مهاراتهم بطريقة متعددة الأبعاد مما يجعل التقييم أكثر دقة وفعالية في قياس التعلم الحقيقي.
في ختام نجد أن التحول من ملل التعليم إلى متعة التعلم في الجامعات يتطلب جهوداً متكاملة تعيد صياغة تجربتنا التعليمية بشكل جذري. ويمكننا من انشاء بيئة تعليمية تكون أكثر جاذبية وتحفيزًا. هذا النهج المتكامل لا يُحسن فقط من جودة التعليم بل يعزز من قدرة الطلاب على التفاعل مع المحتوى بطرق مبتكرة وممتعة مما يجعل تجربة التعليم الجامعي أكثر تأثيراً وإلهاماً. ومن خلال تحقيق هذه الأهداف نخطو نحو تعليم يدمج بين المعرفة والمهارة بين النظرية والتطبيق وبين الإبداع والابتكار مما يتيح للطلاب التميز في عالم متغير وسريع التطور.
