المدى / تبارك المجيد
في الآونة الأخيرة، شهدت بغداد ازديادًا لافتًا في عدد المطاعم والمقاهي والأسواق التجارية، مما أدى إلى وصف المدينة بأنها «غسالة كبيرة للمال».
هذا التوسع الاقتصادي السريع أوجد حالة من التفاوت الاجتماعي، حيث بات المال في متناول البعض، ما رفع أسعار المتطلبات اليومية وفاقم معدلات الفقر.
وبينما يتنقل بعض الشباب في سيارات فارهة، هناك آخرون لا يتجاوز أجرهم اليومي 15 ألف دينار عراقي، مما يوضح وجود فجوة متزايدة بين الطبقتين الغنية جدًا والفقيرة.
لطالما كانت الطبقة الوسطى عبر التاريخ عنصرًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى دورها المحوري في تحفيز الابتكار والنمو. أدرك الفيلسوف أرسطو في الأزمنة الإغريقية أهمية هذه الطبقة، حيث وصفها بأنها تتصرف بحكمة ولا تميل إلى استغلال الفقراء أو حسد الأغنياء. ولكن التحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدها العراق بعد عام 2003 تثير تساؤلات جدية حول مصير هذه الطبقة، التي كانت في الماضي ركيزة الاستقرار والتنمية في البلاد.
التعقيد!
يقول الباحث الاجتماعي نشوان محمد إن المجتمع العراقي يواجه تحديات معقدة ومتعددة الأبعاد تتعلق بتغير أنماط الحياة وزيادة الفجوة الطبقية بعد عام 2003. حيث أشار إلى أن هذه التغيرات مرتبطة بشكل مباشر بالتحول نحو الاقتصاد الرأسمالي وثقافة الاستهلاك.
وأوضح محمد لـ(المدى)، أن «الحاجات الإنسانية بطبيعتها تتجه نحو التعقيد والازدياد»، مشيرًا إلى أن «الحياة المعاصرة أصبحت أكثر تعقيدًا مع دخول المجتمعات في طور الاستهلاك المفرط».
وأضاف: «الأنظمة الرأسمالية، التي تعتمد على زيادة الاستهلاك لتحقيق الربح، تشجع على تصاعد الاحتياجات، وهذا بدوره يؤدي إلى تعقيد الحياة بشكل متزايد».
وأكد أن العراق، منذ سقوط النظام السابق في 2003، انخرط في دائرة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، مما حوله إلى مجتمع استهلاكي يعتمد بشكل أساسي على المنتجات المستوردة والخدمات، مع تحوّل الكماليات السابقة إلى ضروريات اليوم. كمثال، أشار إلى الهواتف المحمولة وخدمات الإنترنت، التي بدأت كخدمات كمالية لكنها تحولت إلى احتياجات لا غنى عنها.
وذكر محمد أن «التطورات التقنية، وتحول المجتمعات الريفية إلى مدنية، تزيد من تعقيد الحياة وتجعلها أكثر صعوبة»، مشيرًا إلى أن أنظمة الاقتصاد المختلط أو الاشتراكية تضمن الحاجات الأساسية كالتعليم، الصحة، والسكن للمواطنين، مما يقلل من صعوبة الحياة.
أما في الأنظمة الرأسمالية، فيخضع كل شيء للربح، بما في ذلك التعليم والخدمات الصحية، مما يجعل الحياة أكثر كلفة وتعقيدًا.
وفيما يتعلق بالتقسيم الطبقي بعد 2003، أوضح محمد أن العراق شهد تغيرًا جذريًا في هيكل المجتمع نتيجة للتحولات الاقتصادية والسياسية التي مر بها. قبل 2003، كان المجتمع العراقي يتألف من طبقة فقيرة عريضة وطبقة غنية صغيرة، نتيجة الحصار والحروب. ومع التحول إلى اقتصاد ريعي يعتمد بشكل رئيسي على عائدات النفط، ظهرت طبقة جديدة من الأثرياء تتألف من السماسرة والمقاولين والمسؤولين الحكوميين الذين استفادوا من عائدات النفط ومن الفساد المالي والإداري.
وأضاف محمد أن «هذه الطبقة الغنية توسعت بفعل الفساد وتضخم دور الوسطاء والوكلاء الماليين المرتبطين بالمؤسسات الإنتاجية الخارجية، وخاصة في الدول الصناعية الكبرى والصين. في المقابل، ومع غياب سياسات اقتصادية سليمة وتدهور المشاريع التنموية، زادت نسبة الفقر بشكل كبير، حيث أصبح هناك طبقة واسعة من العاطلين عن العمل والخريجين الذين لم يتمكنوا من الحصول على فرص عمل، فضلًا عن أصحاب الحرف الصغيرة والفلاحين الذين تضرروا من انفتاح السوق على المنتجات الأجنبية».
الطبقة الوسطى تتآكل
وفيما يتعلق بالطبقة الوسطى في العراق، أشار محمد إلى أن هذه الطبقة لا تتطابق مع المعايير العالمية للطبقات الوسطى. وقال: «لا توجد في العراق طبقة وسطى بالمعنى التقليدي الذي نراه في المجتمعات الغربية». ومع ذلك، بيّن أن هناك شريحة محدودة تتألف من كبار الموظفين وأصحاب الدخل فوق المتوسط وبعض المضاربين في الأسواق، ولكن ملامح هذه الطبقة مشوهة بسبب غياب بنية إنتاجية محلية قوية تدعم وجودها وتطورها.
واختتم محمد بالتأكيد على أن العراق يعاني من تحديات كبيرة في تأمين الحاجات الأساسية لمواطنيه، مما يزيد من تعقيد الحياة اليومية ويعمّق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. وطالب بضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لدعم الفئات الفقيرة وتحقيق توازن أكبر في توزيع الثروات.
تأثير الفساد
أشار المحلل السياسي محمد زنكنة إلى أن الفساد في العراق أدى إلى اختفاء الطبقة الوسطى تمامًا، مؤكدًا أن «الفساد ألغى وجود الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي ولم يتبقَ سوى الطبقة الغنية التي استفادت بشكل سيئ من الحروب والصراعات الطائفية». وأضاف زنكنة أن هذه الطبقة الغنية ازدهرت على حساب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، مشيرًا إلى أن «الوضع الاقتصادي بشكل عام أتاح لبعض الفئات الاستفادة بشكل غير مشروع من الأزمات التي مر بها العراق، ما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى تمامًا».
وأوضح زنكنة أن «المحاصصة والمحسوبية، التي تحولت إلى ثقافة في العراق، ساهمت بشكل كبير في تفشي الفساد»، مشيرًا إلى أن «ما كان يُعرف بالتوافق السياسي تحوّل إلى سرقات بمليارات الدولارات». وأكد أن هذه الأجواء ساعدت في انتشار ثقافة الرشوة والمحسوبية داخل المؤسسات الحكومية، مما عمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في العراق.
وأشار زنكنة إلى أن «هناك أكثر من عشرة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة التي تصل إلى 45 في المائة». وأعرب عن قلقه من تفاقم الأوضاع، مشيرًا إلى «وجود عدد كبير من النازحين واللاجئين داخل وخارج العراق، بالإضافة إلى إقامة مخيمات لمن لم يحصلوا على حقوق المواطنة العراقية».
واختتم زنكنة بالقول إن «الفساد لعب دورًا عظيمًا وعميقًا في تدهور الوضع الحالي، وعلى الحكومة أن تأخذ هذه المسألة بجدية». ومع ذلك، أعرب عن شكوكه في قدرة الحكومة على مواجهة الفساد، قائلاً: «العديد من الأطراف السياسية مشاركة بشكل مباشر في هذه الممارسات، وهذا ما يجعل الحكومة تتجنب مواجهة الفساد بشكل فعّال».
تدهور التعليم
بسبب وجود فجوة كبيرة بين الطبقات الاجتماعية، تضطر العديد من العائلات في العراق إلى حرمان أطفالها من التعليم، بينما هناك من يدفع أكثر من 14 مليون دينار عراقي سنويًا لتعليم أحد أبنائه. في هذا السياق، علق الخبير الاقتصادي أحمد عيد قائلاً: «تتزايد نسبة الأمية في العراق سنويًا نتيجة لعدة عوامل، من بينها ضعف قطاع التربية والتعليم، خصخصة المدارس، ضعف المناهج الدراسية، بالإضافة إلى الفساد المالي والإداري الذي نشط في المؤسسات التربوية منذ عام 2003».
وأكد عيد أن الأمية المرتفعة تشكل تهديدًا كبيرًا للمجتمع، الذي يشهد تدهورًا اقتصاديًا نتيجة البطالة والفقر وانتشار الفوضى، وهي أمور تفاقمت بسبب السياسات غير الفعالة للطبقة الحاكمة وعدم تفعيل قانون إلزامية التعليم رغم سريانه.
كما أشار إلى أن «عسكرة المجتمع وضعف التوعية والتثقيف هما من أهم أسباب تزايد الأمية، حيث يتجه المواطنون بعيدًا عن التعليم سعيًا للاندماج في المؤسسات العسكرية أو الميليشيات المسلحة التي تعمل خارج نطاق سلطة القانون، وتتمتع بسلطة مالية واقتصادية تحت غطاء الدولة». وأضاف أن موجات النزوح وعمليات التغيير الديموغرافي التي تعرضت لها مناطق واسعة من العراق ساهمت أيضًا في تفاقم هذه الأزمة.
«الطبقة الوسطى».. يتآكلها الفساد والأزمات الاقتصادية!
نشر في: 22 سبتمبر, 2024: 12:08 ص