TOP

جريدة المدى > عام > فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

نشر في: 23 سبتمبر, 2024: 12:03 ص

د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
الى: وليد داود
(2 - 3)

ينطوي التكوين المعماري – الفني داحل المسجد على تقسيم ظاهر لجزئين اساسيين: أسفل وأعلى. فالجزء الأسفل تشغله الأعمدة، والأعلى مشرب ومملوء بالعقود والأقواس. أن الجزء الاسفل يخلق حيزاً لاستيعاب شخوص المصليين، والأعلى يوحدهم نحو هدف واحد. وتتوزع أعمدة الجزء الاسفل بنظام صارم في جميع الجهات. انها مؤشرات فضائية، إيقاعها المنتظم يحدد مدى الحيز المحصور وسعته! ويتوخى المعمار من خلال توظيف الاعداد الكثيرة والهائلة للأعمدة في حرم المسجد، الى تثبيت فكرة يسعى لان تكون حاضرة بقوة في الحل التكويني المبتدع، وهي غياب تابعية أعمدة معينة لاخرى غياباً تاماً مع التأكيد الى نفي "مرؤسية" اقسام الفضاء الداخلي بعضها للبعض الآخر، ذلك لانه مفتون، حتى الاعماق، بخلق انطباع جلي بانعدام <المركزية> دخل الفضاء المجترح! وفي اختصار شديد، ثمة خصوصية معينة لفضاء معماري ينتظر زائر المسجد، انها بمنزلة خصوصية استثنائية لا تشبه البته اساليب "معالجات" الفضاءات الاخرى التى دأب الزائر العادي على مواجهتها والمعرفة السابقة بتفاصيل ملامحها. كما ان الأعمدة "المغروسة" لا تؤلف تشكيلات لمجاميع معينة، بل اننا لا نلمس اية نزعة تشير الى ذلك، فجميع الأعمدة متساوية، يشبه بعضها بعضاًـ أو في الاقل، هذا ما يرغب المعمار الى تأكيده. من هنا يبدأ تأثير الإحساس المراد خلقه وهو انطباع "اللامركزية" في التكوين المبتدع.
والظاهر، ان حدث "لا مركزية" التكوين، الذي جاهد عرفاء الاندلس في استدعائه وحضوره في التصميم، كان نابعاً من عدم وجود محور وسطي اساسي، جراء "زرع" الظلة المسقفة بعناصر متشابهة من التأليفات المعمارية ووضوحها الذي تجسد من خلال الاستعارات العددية الصارمة والنسب الرياضية المجردة، ما انعكس على أسلوب معالجات الواجهات للمسجد، والتى اتسمت على صياغات متشابهة ومتكررة. وبفضل وجود هذين العاملين (لا مركزية التكوين، وتشابه معالجات الواجهات)، أكتسب المبنى قابلة الانتشار والتوسع المكاني، من دون إخلال واضح بأصول التكوين المميز وقيمه. وهو الامر الذي جرى فعلاً لمسجد قرطبة، فعلي امتداد نيف وقرنين من السنين، وكما اشرنا الى ذلك من قبل، ظل المسجد العتيد يتوسع ويمتد في مختلف الجهات محتفظأ في الوقت ذاته، على صفاء اساسيات التكوين المعماري المميز ومن دون الإخلال بها.
ويمكننا ان نستخلص من كل ذلك مفهوما مميزاً، (نراه على جانب كبير من الأهمية)ـ اتسمت بها تكوينات مسجد قرطبة (والمساجد الشبيهة به)، وهو ما ندعوه بـ "التكوين المرن": اي قابلية المبنى التوسع المكاني زمانياً، ومن دون خوف من إفساد التكوين المعماري للمبنى. وهذا المفهوم، الذي تجسد بوضوح في الحلول التصميمية لعمارة مسجد قرطبة، يعبر، في رأينا، بوضوح عن خصوصية العمارة الاسلامية وقيمها؛ اذ لا وجود لمثل هذة الخاصية التصميمية في نتاجات حضارات أخرى. فمن العبث بمكان، تطبيق هذا المبدأ التصميمي على الهياكل الاغريقية او الرومانية او على تكوينات الكتدرائيات الغوطية اوغيرها من الامثلة المعمارية العائدة لحضارات اخرى، دون أن ينهار التكوين الفني لها او يتغير تغييرا جذرياً. ولقد استفاد كثر من المعماريين العالميين بغض النظر عن اثنياتهم ومواقعهم الجغرافية ومرجعياتهم الثقافية، استفادوا من قيمة ومغزي هذا المبدأ التصميمي للعمارة الاسلامية في مقارباتهم التصميمية. ولعل دراسة متأنية لبعض أعمال المعمار "لويس كان" (1901 -1975)كفيلة بترشّح هذا الجانب الإبداعي في نتاجاته المعمارية. والامر ذاته نجده ايضا في بعض تصاميم المعمار الهندي المعروف "جارلس كوريا" (1930 -2015) ("متحف غاندي في حيدر آباد" على وجه الخصوص). كما استطاع لو كوربوزيه (1887 – 1965) ان "يُؤَوَّل" ويفسر، وفق اجتهاداته الفطنة، هذا المبدأ المميز للعمارة الاسلامية في مشروعه لمبنى "متحف التوسع غير المحدود" (1939) Museum of Unlimited Growt، وغير ذلك من التصاميم المعمارية الأخرى.
يؤدي عنصر "الصحن" ـ دوراً أساسياً في التكوين التصميمي - الفضائي/ الفني لعمارة مسجد قرطبة. فهو بمساحته ذات الأبعاد الواسعة وهندسته الصافية، وفضائه الخالي تقريباً من عناصر تصميمية (عدا الميضأة)؛ ومن ثم أحاطته من جميع الجهات باروقة مسقفة، وأسلوب توقيعه، ضمن المخطط العام للمسجد، فضلاً عن وظائفه المتنوعة، فانه يعتبر أحد العنصرين الرئيسيين (العنصر الآخر هو فضاء الحرم) المشكليّن لهيئة التكوين العام لمبنى المسجد. وبهذه المكانة التصميمية، فهو يؤدي دوراً تكوينياً مكافئاً ومعادلاً مع عنصر فضاء حرم المسجد. كما ان مفردة "الصحن"، في الحل التصميمي لمسجد قرطبة (كما هي في الحلول التصميمية للمساجد الجامعة لهذا النمط المعماري) تجسد المفهوم الخاص لإدراك معنى "الفضاء"، وعلاقته بالكتلة المعمارية، ذلك المفهوم الذي لازم تصاميم المعمار المسلم عموماً في تصوراته الخاصة لمدلول الفضاء وفحواه، والتي ورثها من بعـده المعمار الاندلسي، موصلاً تلك التصورات إلى صيغ نقية وواضحة. اذ تبدو تقسيمات وحدات العناصر المسقفة والمكشوفة التي يعتمد عليها أساساً التكوين المعماري، تبدو جليّة ومحددة في الإسقاطات الكتلوية لعمارة المسجد، وهذا الجلاء والتحديـد يسهما كل منهما في زيادة الاكتفاء التكويني الذاتي لعناصر المسجد ذلك الاكتفاء الذي يعمل في اتجاه تجاهل وعدم الاكتراث بأهمية الفضاء الخارجي المحيط، كاشفاً في الوقـت نفسه عن تجليـات عمل إحدى أهم الخصائص التكوينية للعمارة الاسلامية، والمتمثلة في آهلية إحاطة الكتلـة المعمارية <للفضاء> والتخلي عن النمط المفاهيمي المألوف لتمركز الكتلة ذاتها في <الفضاء المحيط>. بمعنى آخر، تحيط "الكتلة" المعمارية، وفقاً لتصورات العمارة الإسلامية بـ "الفضاء"، وليس "احاطة" الفضاء بالكتلة، كما هو شائع عند الحضارات الأخرى.
بيد أن هذه الإحاطة، كما يدركها المعمار الاندلسي في ممارساته التصميمية لصحون مساجده الجامعة (وغيرها من المعالجات التصميمية للمباني الأخرى كالقصور، والأبنية السكنية وغيرها)؛ لا تعني البتة، الإغلاق المصمت والجامد. فالفضاء المحصور يخترق العناصر التصميمية وينساب فيما بينهما بسهولة ويسر كبيرين، خالقاً بذلك الإحساس: الغلق والانفتاح معاً، ذلك الإحساس التصميمي المتفرد الذي تتسم به طبيعة المعالجات التكوينية المعمارية - الفنيـة للمباني الاسلامية، التي يدعوها روبرت فنتوري Robert Venturi "بظاهرة كلا الاثنين معاً" (Robert Venturi Complexity and Contradiction in Architecture, P. 23)؛ والذي يشمل المستويات المتناقضة من حيث المعنى، وفي العمارة التضاد المتناقض ذاتياً.
إن طبيعة توقيع الصحن في المخطط التركيبي لمبنى مسجد قرطبة، وكذلك هيئته العامة، لا تسهم في تحديد مسارات الحركة بين كتل المبنى، وفراغاته المصممة، ولا إلى تنظيمها. بل إن هيئة الصحن وشكله ذات " الفورمات " الهندسية المنتظمة، والمحاطة من جميع الجهات بعناصر تصميمية متشابهة ومتماثلة؛ لا تسعى حتى لتأشير اتجاهية المسار أو تحديده. فمنهج المسارات المحددة ذات الاتجاهية الاستدلالية تختفي من أساليب المعالجات التصميمية للعمارة المساجدية، فتضحى أرضية الصحن المكشوف وفناؤه الفسيخ مجالاً مشاعاً لنوعية حركة حرة وطليقة وتلقائية، غير خاضعة لقيود ما. من هنا، يكتسي حضور "منافذ" الدخول المتعددة (والتركيز هنا على مفهوم "المداخل" وليس الأبواب) يكتسي أهمية تكوينية خاصة في التعبير عن حالة الانتقال بين الفضاءات المغلقة والمفتوحة في المباني المصممة.
ولقد انفقت اموال طائلة لبناء مسجد قرطبة واعمال زخرفته. وتقدر الاموال التى انفقها عبد الرحمن الداخل على تأسيس المسجد في صيغته الاولى بـ (80) الف دينار، وهو مبلغ قيمته كبيرة جداً نسبةَ الى تلك الايام. كما ولع القرطبيون خاصة والاندلسيون عامة بتمجيد مسجدهم منذ تأسيسه ".. وحرصوا على نظافته وروائه، حتى كان رجال نذروا فراغ وقتهم كله في خدمة المسجد، فكانوا لا يزالون طوال اليوم ينظفون أرضه وجدرانه ويلمعون نحاسه وفضته وقد تركوا من اوصافة ما يفوق أوصاف اي مسجد آخر"، كما يقول <حسين مؤنس>.
وبالاضافة الى وظيفته الدينية، فان مسجد قرطبة أُعتبر مركزاً مهما في تاريخ العلوم العربية والإسلامية في الاندلس. فقد كان جامعة حقيقية تحفل فضاءاته بالشيوخ والطلاب، فضلاً عن انه ظل طوال تاريخه داراً للقضاء في قرطبة. وشهد المسجد حوادث سياسية عاصفة مرت على الدولة الاموية في الاندلس، وكان هو مسرحاً لها. ففي أروقته حوصر آخر خليفة أموي: هشام الثالث المعتمد، هو وعائلته. وفي داخل المسجد دبر وجهاء قرطبة أمراً بالغاء الخلافة وتسليم الحكم لهم بادئين عصراً جديداً هو عصر "ملوك الطوائف".
تعرض المسجد بعد سقوط قرطبة في 29 حزيران/ يونيو 1236 بايدى القشتاليين، الى تشويهات عديدة، نجمت عن بناء مصليات وكنائس داخل حرم المسجد. على ان افجع هذة التشويهات هي تلك التغييرات الواسعة التى طرأت على اسلوب التكوين الفضائي للمسجدـ اعتباراً من أواخر القرن الخامس عشر. ففي سنة 1489 امر الاسقف اينمو مانديكي بهدم عقود المسجد وازالة اعمدته ليؤسس مكانها جدارين عريضين، بغية تكوين مجاز لكنيسة. وفي سنة 1523 شرع الاسقف دون الونسو مانريكي في هدم جزء واسع من المسجد، وذلك لاقامة كاتدرائية غوطية الطراز في قلب فضاء حرم المسجد، وتم بناؤها سنة 1599. ثم اقميت مصليات جديدة مرة اخرى بعد هذا التاريخ. ورغم وجود تلك المنشاءات المضافة العديدة في حيز المسجد، فان حالة السياق العام للنهج التكويني له (للمسجد) ظلت ثابتة لا تتغير كما ارادها واجترحها في الاصل العرفاء الاندلسيون. وفي ظني، ان تعليل تلك الحالة يرجع بالاساس الى "ثبات" ونقاء <البساطة> المتقشفة الطاغية عبقها في المكان وفي خصوصية عناصره التصميمية؛ تلك <البساطة> التى أًريد لها ولحضورها الراسخ ان تستدعي "بلاغة" التشكيل وفصاحته. فالبساطة هنا تشبه الزهد؛ الزهد الذي يخلق الرزانة القادرة على توحيد العناصر الاصلية توطئة لبلوغ فخامة تصميمية بامكانها ان تتسيد الفضاء وتعلو على محاولات تغريبه!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الذكرى 150 لولادة شونبرغ

التعالي التكنولوجي في تخيل الذكاء الاصطناعي

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

تنويعات الوردة

مقالات ذات صلة

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا
عام

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

لطفية الدليميالسرنديبية Serendipity، مفهوم يعني في بعض دلالاته أن يأتيك الامر مباغتا عن غير تدبّر قصدي مسبّق. لديّ من تجربتي الشخصية مع القراءة بعضُ الحالات التي ترقى إلى مصاف الكشف السرنديبي المدهش. كلّ قارئ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram