د. فالح الحمراني
مع اقتراب دخول عملية الإبادة التي تقوم بها إسرائيل بآليتها العسكرية الوحشية على سكان غزة عامها الثاني، بدأت تظهر تداعياتها السلبية سياسيا واقتصاديا وعسكريا على إسرائيل نفسها، ويبدو إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد وضع من بين أهداف أخرى القضاء تماما، ليس فقط على حركة حماس والمنظمات المسلحة الأخرى، بل وتصفية سكان غزة عن بكرة أبيهم وتحويل المدينة الى أنقاض وبالتالي إرغام شعب فلسطين مغادرة أراضيه، فأبناءه المقاتلين المحتملين للمقاومة.
إن ما يحدث في فلسطين على يد الالة العسكرية الإسرائيلية أمر مذهل. ولا يتذكر الخبراء مثل هذه المأساة، والكارثة الإنسانية. وجاء رد تل أبيب على عملية طوفان الأقصى بجريمة تقوم على استخدام أسلوب العقاب الجماعي المحظور للمدنيين، وتغض الولايات المتحدة الغرب عموما النظر عن انتهاك القيادة الإسرائيلية جميع أعراف القانون الإنساني والاخلاقي. وتجاهلت صوت أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوريتش بان هجوم حماس لم يأتِ من الفراغ، في إشارة الى الممارسات الإسرائيلية المتواصلة والامتناع عن تنفيذ قرارات المنظمة الدولية القاضية بإقامة دولة فلسطين.
وعلى خلفية ذلك التطور المروع في غزة والضفة الغربية، فان إسرائيل لم تحقق الأهداف التي وضعتها من عملية الإبادة للفلسطينيين، فالشعب الفلسطيني لم يرحل عن أرضه، ولم تقضِ على المقاومة المسلحة بشخص حماس، ولم ترمِ الى سلة المهملات، ما تحلم، لقضية الفلسطينية برمتها، وكتم أصوات المطالبة الدولية بإقامة الدولية الفلسطينية، وتعرضت لمحاكم وشجب دولي وشعبي واسع لا مثيل له، علاوة على ما تتعرض له المدن والمناطق السكنية من ضربات صاروخية ومسيرات مما اثأر الهلع بين سكانها، ودفعت للهجرة المضادة، وأثارت نزاعات وصراعات في داخل النسق الأعلى للسلطة في إسرائيل وزعزعت استقرارها بشدة، وأجلت بعض الدول النظر في التطبيع معها، وكل هذا انعكس بصورة قاتلة على الاقتصاد الإسرائيلي الذي صار يعاني من أزمات مميتة.
وبحسب الإحصائيات الدولية، مع بداية حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، انعكس اتجاه تحركات رأس المال الضخمة بسبب انعدام الثقة في قدرة حكومة بنيامين نتنياهو على إعادة الاقتصاد إلى النمو والاستقرار مع اتساع جبهات الحرب وتعمق الصراعات السياسية الداخلية.
ومع استمرار الأزمة في قطاع غزة وظهور مؤشرات التصعيد في الشمال ضد حزب الله اللبناني ومخاوف المستثمرين من تزايد العجز المالي وانخفاض النمو الاقتصادي، تتزايد مخاوف المؤسسات المالية والاستثمارية من خسائر لا يمكن تعويضها. وتم تحويل أموال بقيمة 151 مليار شيكل (40.4 مليار دولار) من إسرائيل إلى الخارج منذ بداية تشرين الأول، وفقا للبيانات المالية التي نشرتها صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية، مع الإشارة إلى أن متوسط استثمار المؤسسات العاملة في صناديق الادخار في الخارج، ارتفعت من 51.7% في بداية الحرب إلى 56.3% في نهاية حزيران، وتظهر البيانات أن استثمارات المؤسسات في الخارج قفزت إلى ما يقرب من 384 مليار شيكل (102.9 مليار دولار)، مقارنة بـ 306 مليار شيكل (82 مليار دولار) في تشرين الأول من العام الماضي، بزيادة قدرها 78 شيكل مليار بما يعادل 25.5%. ويشبه الوضع في سوق التقاعد الوضع في سوق الادخار حيث رفعت المؤسسات متوسط (استثمار) صناديق التقاعد في الخارج إلى 50% في تموز من هذا العام. ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية ضد حماس في قطاع غزة جرى تحويل 86 مليار إلى الخارج من أصول التقاعد.
ويعكس تحويل الأموال إلى الخارج المخاوف المتزايدة بشأن الأضرار التي ألحقتها الحرب بالاقتصاد، حيث أظهرت البيانات الصادرة في وقت سابق من شهر أيلول من هذا العام أن الأفراد والعائلات في إسرائيل يكثفون أيضا تحويلاتهم إلى الخارج تحت شعار “الشيكل الأبيض مقابل مطر ممطر”. اليوم.” وهو ما يرسم صورة قاتمة للوضع الاقتصادي.
وأظهرت البيانات الصادرة عن شركة Trading Economics، وهي شركة استشارات مالية دولية، أنه تم تحويل ما يقرب من 5.6 مليار دولار من إسرائيل في عام 2023، أي أكثر بسبع مرات من التحويلات التي تمت قبل ستة أشهر من الحرب. وزاد معدل تدفقات رأس المال إلى الخارج منذ نيسان من العام الماضي.
وأشار يوفال إيفان، مدير الاستثمار في شركة مجدل للتأمين، إلى أن أموال الشركات بدأت في الأشهر الأخيرة تتدفق إلى الخارج، وهذه عملية مختلفة تماما عن ذي قبل، والسبب في ذلك هو أن الوضع السياسي يبدو قاتما. ومع المخاوف من تصعيد الوضع في شمال إسرائيل ودفع صفقة الرهائن أكثر فأكثر، سيستمر القتال وهذا له عواقب كثيرة، وقدر أن الوضع الصعب مع سحب الاستثمارات لا يزال قائما، موضحا : تحتاج الحكومة إلى تمويل العمليات العسكرية في وقت يصعب فيه جذب الأموال من الخارج (الاقتراض) بأسعار فائدة جيدة، والعبء على الشركات المحلية مرتفع وهناك حد لمدى قدرتها على تحمله، ومؤخرا وأظهرت البيانات الاقتصادية أيضا أن التضخم بدأ في الارتفاع. إن الزيادة في عدد الشركات التي تستثمر في السوق المحلية في بداية العام كانت مبنية على افتراض أن القتال سيكون محدودا، كما هو الحال في الحروب الأخرى التي نعرفها، وبدا أن كل شيء يمكن إغلاقه بسرعة كبيرة، ولكن تقريبا وبعد مرور عام، لدينا ست جبهات نشطة، بالإضافة إلى التوترات السياسية الداخلية، دخلنا الحرب في نهاية العام الماضي، ولكن بعد عام أصبحنا بالفعل في وضع أسوأ، كل شيء أكثر تعقيدًا مما كنا نعتقد.
كما أصبح حجم العجز الإسرائيلي واضحا في شهري نيسان وأيارو، عندما بدأ في الارتفاع إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي على أساس سنوي، وفقا لمدير الاستثمار في شركة مجدال للتأمين. واستمر العجز في الاتساع، ليصل إلى 7.6% في حزيلاو، و8.1% في تموز، ثم إلى 8.3% في آب، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن وزارة الخزانة.
ويفترض المستثمرون أن ضعف الاقتصاد الإسرائيلي سيستمر على المدى الطويل، لذلك توقفوا عن شراء الأسهم الإسرائيلية في الربع الثاني مقارنة بالمشتريات التي قاموا بها في الربع الأول، بحسب تقرير كالكاليست. ولاحظت أن هذا كان بالفعل رد فعل على بيانات الربعين الأخيرين من العام الحالي. وانكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنحو 20% في الربع الأخير من عام 2023 وسط استمرار الهجمات الإسرائيلية والقصف على قطاع غزة. ووفقا لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، أظهرت البيانات الأولية أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد انكمش بنسبة 19.4% على أساس سنوي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، وهو ما يقرب من ضعف توقعات السوق للانخفاض. وفي الربع الأول من عام 2023، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 3.1%، وانخفض إلى 2.8% في الربع الثاني، يليه 2.7% في الربع الثالث. بالنسبة لعام 2023 بأكمله، نما الاقتصاد الإسرائيلي بما مجموعه 2% فقط، وهو انخفاض كبير من 6.5% في عام 2022. وقال مكتب الإحصاء: “إن الانكماش الاقتصادي في الربع الرابع من عام 2023 تأثر بشكل مباشر بإطلاق عملية السيوف الحديدية في 7 تشرين الأول”، في إشارة إلى القصف الإسرائيلي والتوغل في قطاع غزة عقب هجوم حركة حماس على الأراضي الإسرائيلية. وحتى ذلك الحين، تم التوصل إلى أن أسباب انكماش الاقتصاد الإسرائيلي تراوحت على الأرجح بين المقاطعة العالمية للبضائع الإسرائيلية، وتباطؤ الاستثمار الدولي في البلاد، وانخفاض الواردات إلى إسرائيل والصادرات منها بسبب تعطيل طرق الشحن. . ويقال إن كل هذه الأسباب أدت إلى انخفاض الطلب، وارتفاع التكاليف، ونقص العمالة في الداخل، ومن المتوقع أيضاً أن تكلف الحرب التي تشنها إسرائيل ضد حماس في قطاع غزة إسرائيل 48 مليار دولار.
وامتد الاستياء من التوترات السياسية الداخلية وسط الحرب إلى منتدى أعمال يضم رؤساء نحو 200 شركة ومؤسسة اقتصادية ومالية كبرى توظف غالبية العاملين في القطاع الخاص في إسرائيل، حيث انتقد المنتدى سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. بحسب صحيفة معاريف، وحذره من مغبة ما تنشره وسائل إعلام إسرائيلية بشأن اعتزامه إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت واستبداله بجدعون سار. ورغم أن مكتب نتنياهو نفى تقارير إعلامية إسرائيلية، إلا أن المنتدى قال: “توقفوا عن ممارسة السياسات التافهة والقبيحة في خضم هذه الحرب… أوقفوا على الفور عملية استبدال وزير الدفاع”. إن إقالة الوزير تضعف إسرائيل في نظر أعدائها، وستعمل على تعميق انقسام شعب إسرائيل. رئيس الوزراء يعرف أكثر من أي شخص آخر أن كل المؤشرات الاقتصادية تثبت أيضا أن إسرائيل تتجه نحو الهاوية الاقتصادية وتغرق في ركود عميق.. وآخر ما تحتاجه إسرائيل الآن هو إقالة وزير الدفاع الذي سيهزها. البلاد.»