TOP

جريدة المدى > عام > محمد كامل عارف.. إن للأفكار أجنحة

محمد كامل عارف.. إن للأفكار أجنحة

نشر في: 25 سبتمبر, 2024: 12:02 ص

ابراهيم رشيد
لا تقلق ابوالعباس حتى لوان الاشياء تمضي وألأفكار تتغير ولم تترك ماكنت تحلم به، فأنت تعرف ان "للأفكار اجنحة تطير.." الى اصحابها اينما كانوا، هذا ماقلته لي اول مرة عندما التقيتك عام 1978 بعد ان تركت عملي كرسام في جريدة "طريق الشعب" لا اذكر من اقترح علي العمل معك، ربما كان الشاعر النبيل والطيب القلب حميد سعيد بعدما اغلقت واعتقلت السلطة اغلب كادرها وكنت واحدا منهم. يومها تحدثنا طويلا وبحذر شديد عن ماجرى ويجري من الأسى والحيف العميقين الذي اطالنا والذي اطالك بعد ذلك ايضا مع نخبة اخرى من الكتاب والمفكرين اليساريين والماركسيين. كنت تنصت لي بكل هدوء وود وخبرة العارف رغم فارق العمر بيننا، تهز رأسك بين الحين والأخر بهدوء رصين وأبتسامة المتيقن. قلت لي: هل تعرف ماذا قال ابن رشد عندما شاهد تلميذه يبكي وهم يشاهدون حرق كتبه:
(يابني لو كنت تبكي على الكتب المحترقه، فأعلم ان للأفكار اجنحة وهي تطير بها الى اصحابها، لكن لو كنت تبكي على حال العرب والمسلمين فأعلم أنك لو حولت بحار العالم لدموع لن تكفيك).
وفجأة تقف لتمازحني وتسألني: قل لي، مالذي دفعك للعمل في "طريق الشعب" بين قامات كبيرة في السياسة والادب والصحافة من امثال ابو كاطع، فخري كريم، عبد الرزاق الصافي، فاضل ثامر.. سعدي يوسف..يوسف الصائغ..
فكرت، ثم قلت لك: ربما الافكار.. الاقدار.. والاحوال التقت جميعها لأكون هناك، وتستمر في سؤالي عن كل شيء، احوالي الاقتصادية، والدي وعمله، عدد افراد عائلتي، الاكل، الكتب، رسوماتي وكأنك تعيش معي، اخا حميما وودودا هكذا عرفتك، ولابد ان اقول ذلك. هذا ليس رثاء لك، فأنت ليس ممن يحبون الرثاء. فلقد تركت الأفكار والكلمات والذاكرة الحرة تطير وتتحول من مكان الى أخر، من لندن الى بغداد، كلمات حميمة من صديقك الفنان الرائد ضياء العزاوي طارت وكأني قد قرأتها فيك منذ زمن بعيد.. ومن تورنتو.. اكتب اليك وأعيد كلماتك لي، فهي مازلت في مخيلتي تطير هي الاخرى بحرية بين الحدود الى بغداد، امستردام وموسكو، ومن ثم الى لندن. كنت دائما تسمو وينتشي قلبك مع كل موضوع اوصورة تجد ضالتك فيه، تدقق وتتحرى عن كل كلمة وصورة فيه. انصت الى احاديثك وتساؤلاتك اللغوية وانت تغور وتتفحص حول كلمة ما او معلومات معينة او بلاغة مصطلح او اصل الكلمات والمعاني ومصادرها. وكثير ما كنت سمعتك تسأل وتستشير الاخرين وتستمتع بهذا، ترفع سماعة الهاتف لتتحدث مثلا مع الناقد والاديب جبرا ابراهيم جبرا اوالاستاذعلي جواد الطاهر وغيرهم من اعلام الفكر والثقافة العراقية.
لم تشجع الفن والافكار الساذجة والمتخلفة، وأنما كنت ذو نزعة حضارية ومستقبلية وفهم ديالكتيكي للأقتصاد والتكنولوجيا. تعشق الكتب وكأن قلبك يختبئ بين صفحاتها ويطفوا فوق سطورها، قلت لي يوما: اريد ان اكون زاوية خاصة للكتاب في صفحة أفاق، دعنا نسميها "الأنسان والكتاب" مارأيك؟ ارسم تخطيطا كل اسبوع عن كتب قرأتها او ستقرأها! كانت عيونك تتلألأ حماسا وشوقا، اقترحت علي بعض الكتب لقرائتها، احببت الفكره، وبدت لي مثل رحلة قصيرة الى الداخل، الروحي والمادي، الفلسفي والاجتماعي السياسي والثقافي. كنت كلما احضر لك رسما، تقابلني بكلماتك المبهجة والدافئة (الله.. رائع وبديع، تعال سهيل شوف ابراهيم شنو رسم..) ويتلقفها الصديق الكاتب والروائي سهيل سامي نادر بضحكته الطفولية ومرحه المدهش، ليضعها سريعا مع مواد العدد التالي، وهو يقول مازحا (طبعا أنا الناقد المتابع له..!)
غرفتك في الطابق الثالث في بناية دار الجماهير للصحافة كانت ملتقى للكتاب والصحفيين، يشاركك فيها بالطبع سهيل نادر الذي لم اراه يوما في حياتي جالسا على كرس فيها ويكتب. ومازلت اتسائل اين كان يكتب كل هذه المقالات.. لا اعرف حتى الان، واعتقد هو نفسه لايعرف ايضا! كانت هنالك ايضا قهوة الصباح الذي يحضرها (عمي كشاش) الساعي الامين الصامت الطيب الذي لايفارق كرسيه ابدا من امام مكتبك، ذلك الرجل الذي لايسمح لأي احد من دخول مكتبك عندما تكون مشغولا في قرأة مادة ما. كانت قهوة (كشاش) ذات النكهة البغدادية تحضر سريعا كلما اجلب له رسما جديد، ارتشفها وانصت لحواره الهادئ والرخيم وملاحظاته حول الافكار والتقنيات. في هذه الغرفة ذات النافذة المطلة على الجسر الحديدي كانت تدار جلسات مفعمة بالحورات الثقافية والاجتماعية والسياسية الرصينة وكثيرا ماكانت تنتهي بالسخرية والنكات المبطنة ضد الاوضاع الحياتية والسياسية التي كنا نعيشها او بقهقهات ومشاكسات الصديق الكاتب والشاعرالراحل رياض قاسم. هل تعرف ابو العباس بأن اصغر التفاصيل في هذه الرسومات كانت تثير انتباهك، تنفعل وتتأثرعندما تتفحص وجوه الناس المهمشين والمكروبين بين ثناياها وكأنأك تعرف بأن الموت قد اخطأهم.
ولذلك كانت الرمزية ملاذا مخفيا في التعبير، نكات سوداء ورموز وتعابير متوجسة. حين التقيتك اخرمرة في امسية شعرية للشاعر يوسف الصائغ في قاعة الفنان رافع الناصري عام 1989 بعد ان عدت الى العراق من لندن بدعوة مع نخبة من الشخصيات والكتاب والادباء في زيارة قصيرة تحدثنا سريعا. في ذلك الوقت العصيب وخوفا من اعين السلطة الامنية التي كانت بلا شك تتبع خطوات المدعويين، كنا نشعر بحرج كبير بأن ننفرد ونتحدث. كنت تجلس خلفي في تلك القاعة الصغيرة والجميلة المليئة بألاعمال الرائعة للفنان الكبير رافع الناصري، تربت على كتفي بكلا راحتيك بين الحين والاخر مع ايقاع قصيدة وصوت يوسف الصائغ المتهدج. لم انتظر حتى ينتهي من قراءة قصيدته الرائعه "اهذا، اذن، كل ماتبقى من الحب؟" التفت اليك ونبست في اذنك: هل تستطيع ان تساعدني في الخروج من العراق الى لندن؟
بادرتني بالأجابة سريعا، وبلا تردد. بكل تأكيد ابراهيم! دعنا نتحدث بعد الجلسة. جائت اجابتك بلا وجس او ريب، وبكل صدق ومسؤؤلية وانت تدس قصاصة ورق قطعتها من مجلة "الافق" التي كنت تحملها كتبت عليها رقم تلفون اختك. ثم عدنا نستمع لقصائد صديقنا الشاعر يوسف الصائغ، أسير اخر يتتبع خطى وحفيف حبيبته "سيدة التفاحات الاربع" ويترنح بصوته الاجش.
صفقت له بحرارة العارف بألاسرار الدفينة: الله.. الله بديع يايوسف..
والتفت علي وسألتني في فترة الاستراحة: كيف حالك انت الان؟
قلت: مثل النمرالسجين في هذا الكتاب! اعطيتك ديوان الشاعر الالماني ريلكه، شاعر الغموض الخلاق والاسرار الفائقة، قرأت لك قصيدته المبهره "النمر" واطلعتك على بعض الرسومات الصغيرة التي استلهمتها من هذه القصيدة، صور داخلية لعيون نمرسجين، يقبع خلف القضبان وهو يراقب البرية من بعيد بأحساس بري وقلب ميت!!
ضحكت بهدوء وقلت: ابراهيم.. نحن في امسية شعرية اخرى. لقد اعجبتني حقا رسومات "النمر" وسأخذ أحد "النمور" الى بيتي في لندن! بعد تلك الامسية الرائعة اتفقنا على ان نلتقي بالتحديد في 8 كانون الاول عام 1989 في بيتي ومرسمي مع زوجتي النحاتة مها مصطفى وفي مزرعة خارج بغداد، حيث اعيش وارسم. لكن مصادفة غير متوقعة غيرت كل هذا، لقد كان هذا اليوم هو يوم ولادة ابنتي "سوزان". اتصلت بك لأعتذر على مضض لألغاء موعدنا. لكنك فاجئتني كعادتك، ضحكت وفرحت لهذه المصادفة السعيدة والمفاجئة وقلت لي ان هذه الطفلة ستحضى بشأن مهم في المستقبل. وفي الواقع لقد كان لها هذا واصبحت مهندسة معمارية مبدعة، فهل عرفت ذلك، لقد كانت تلك لمحة العارف.
سافرت بعد ذلك الى لندن على أمل ان نلتقي ربما ثانية في اوربا. لكن فيعام 1997 واثناء زيارتي هولندا ولقائي بالكاتب الراحل اسماعيل زاير فاجئني تلفونك وانت تسأل عني وعن عائلتي وابنتي وكنت قلقا حتى على سيارتي التي تعرضت للسرقة في احدى شوارع امستردام اكثر مني. وتحدثنا طويلا وعميقا عن الفن والسبب الذي يجعلك معجبا برسومات مليئة بالاشكال المأساوية والأستفزازية المكروبة والمليئة بالموت والخوف. اجبتني سريعا وبدقة العارف كـأنك تضع نقاطا على حروف مبهمة: حياتنا هي سلسلة من افلام رعب مستمرة، مقززة ومروعة ومخيفة، نأتلف مع بعضها حتى تصبح مألوفة لنا وتصبح القسوة و الموت مجرد شعور طبيعي ويومي عند الانسان، نجعل منها احيانا (مضاد حيوي) من اجل بقائنا. وبعد ذلك، انقطعت المكالمة وظل صدى كلماتك في الفضاء وانت تحلق بأجنحة من ضوء سرمدي لايتوقف لحظة قبل ان تغلق عينيك.. حينها ادركت بأني اهبط في جوف عميق وانا اكتب لك عن بعض من هذه الصور التي مازالت تبرق وتتدفق في مخيلتي كل يوم، صورواقعية وخيالية تتساقط بظلالها هي الاخرى مع ابر الذاكرة، تحلق فوق اجنحة يافعة وبرية مدهشة لابد انك قد مررت بها يا صديقي العارف الجليل، محمد كامل عارف!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الذكرى 150 لولادة شونبرغ

التعالي التكنولوجي في تخيل الذكاء الاصطناعي

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

تنويعات الوردة

مقالات ذات صلة

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا
عام

وضـعـُنـا الـبـشـري نتاجُ تفاعل الطاقة والفعالية التطورية مع سلوكنا

لطفية الدليميالسرنديبية Serendipity، مفهوم يعني في بعض دلالاته أن يأتيك الامر مباغتا عن غير تدبّر قصدي مسبّق. لديّ من تجربتي الشخصية مع القراءة بعضُ الحالات التي ترقى إلى مصاف الكشف السرنديبي المدهش. كلّ قارئ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram