متابعة/ المدى
مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية، تواجه العراق، نتيجة الاضطرابات الناجمة عن الأزمة المناخية التي تضرب البلاد، حيث تجتاح أراضيه موجات جفاف وترتفع درجات الحرارة فيه بشكل غير مسبوق.
فقد أجبر أكثر من 130 ألف شخص على ترك منازلهم ومهنهم خلال 7 سنوات جنوبي البلاد، التي تواجه خطر فقدان نصف مواردها المائية بحلول عام 2030، وفقا للتقييمات الوطنية والدولية، فيما تشهد محافظات مثل البصرة تصاعدا مقلقا في انتشار مرض السرطان جراء نتيجة التأثيرات الكارثية للصناعات النفطية.
وعلى الرغم من ذلك، تبرز فجوة صادمة بين حجم التحديات ومنظومة البلاد التشريعية والقانونية التي تقتصر على قانون حماية البيئة الذي تم تشريعه في 2009، وسط اهتمام دول العالم بهذا النوع من التحديات عبر منظومة تشريعات وقوانين صارمة ومواد تعليمية.
وتنص المادة 27 من قانون حماية البيئة العراقي لعام 2009، على "حماية وتحسين البيئة من خلال إزالة ومعالجة الضرر الموجود فيها أو الذي يطرأ عليها والحفاظ على الصحة العامة والموارد الطبيعية والتنوع الإحيائي والتراث الثقافي والطبيعي"، إلا أن القانون لم يشر إلى أي أثر أو ضرر ناجم عن التغيير المناخي، على الرغم من مرور العراق بأزمة مناخية حادة تشمل شح المياه والجفاف، التصحر، ارتفاع درجات الحرارة، والهجرة والنزوح القسري.
ولم تتخذ المؤسستان التشريعية والتنفيذية أي خطوات جادة لتحديث قانون حماية البيئة منذ صدوره في عام 2009، ما يؤشر إلى تقاعس في مواجهة التحديات البيئية الجديدة من خلال عدم الاستجابة الكافية للأزمات التي تهدد صحة المواطنين واستدامة الموارد الطبيعية والتنوع الأحيائي في البلاد.
وتم إقرار قانون حماية وتحسين البيئة عام 2009، أي بعد تأسيس وزارة البيئة بست سنوات، كجزء من عملية إعادة تنظيم وهيكلة الحكومة ومؤسساتها بعد سقوط النظام السابق في 2003، حيث كانت الوزارة مسؤولة عن وضع السياسات البيئية وتنفيذها والرقابة على التلوث، حيث اعتبرت وزارة ناشئة بكوادرها وموظفيها الذين لم يكن لديهم خبرات ومعارف بيئية كافية في تلك الفترة.
وتعد موضوعات البيئة بالنسبة للمشرعين حديثة لم يتم التطرق إليها من قبل، فتضاف إلى كل ذلك، خصوصية المرحلة الزمنية الحرجة الواقعة بين 2003- 2009، حيث واجه فيها البلد والمجتمع صراعات طائفية وأوضاع أمنية خطيرة، ناهيك عن تبعات كل ذلك على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
جهود عالمية لمكافحة التغير المناخي
تعمل العديد من الدول في العالم على وضع وتطبيق قوانين وتشريعات ومعاهدات تهدف الى مواجهة التغير المناخي وتقليل الخسائر الناجمة عنه. من بين هذه الجهود، تأتي الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية باريس التي تبنتها 190 دولة في عام 2015، وتهدف إلى خفض الانبعاثات، وبروتوكول كيوتو، واتفاقية الأمم المتحدة الاطارية بشأن تغير المناخ.
على الصعيد المحلي تفرض العديد من الدول قوانين وتشريعات للحد من تأثيرات التغير المناخي.
في هذا السياق أطلقت الولايات المتحدة قانون خفض التضخم (Inflation Reduction Act) لعام 2022 لتشجيع المشاريع الخضراء، أما المملكة المتحدة فقد قدمت قانون "تغيير المناخ" لعام 2008 وهو الأول من نوعه في العالم من حيث الإلزام القانوني لخفض الانبعاثات بنسبة 80٪ بحلول عام 2050 مقارنة بمستويات عام 1990، وتم تحديثه مؤخرا ليتماشى مع أهداف الحياد الكربوني العالمي.
كما يعتبر قانون المناخ الأوروبي الذي تم تبنيه في عام 2021 من أنجح القوانين المناخية العالمية، حيث يلزم الاتحاد الأوروبي بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050 وخفض الانبعاثات بنسبة 55٪ بحلول 2030 مقارنة بمستويات 1990، مع آليات صارمة لمراقبة وتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة والطاقة النظيفة.
كما تعد ألمانيا من الدول الرائدة عالميا في سن التشريعات التي تهدف إلى حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي، حيث تمكنت من وضع إطار قانوني شامل يضم أكثر من 30 قانونا ولائحة تنظم مختلف جوانب حماية البيئة والتعامل مع التغير المناخي.
أين العراق من هذا التقدم العالمي؟
وحول أفضل الممارسات العالمية التي يمكن للعراق تبنيها في تطوير التشريعات المناخية والقطاعات الأكثر تضررا جراء آثار تغير المناخ، تشير خبيرة الزراعة والمناخ خديجة الجابري، إلى أن "القطاع الزراعي يأتي في صدارة القطاعات الأكثر تضررا بسبب التغيير المناخي، نظرا لتقلب أنماط الطقس المتوقعة لإنتاج المحاصيل".
وتؤكد الجابري، أن "ارتفاع درجات الحرارة العالية وتراجع الهطول المطري الموسمي تسبب بتقلص مساحة البلاد الزراعية من 17 الى 50٪، وتأتي بعد ذلك الموارد المائية، فهي المتضرر الثاني، حيث يعد شح المياه قضية حرجة، خاصة في المناطق الجنوبية، ناهيك بالأضرار التي لحقت بالتنوع البايولوجي في المنطقة".
وبشأن مكافحة آثار الاحترار العالمي ودور القوانين الوطنية بخصوص الأزمات الناجمة عنه، تضيف أن "إدراج أحكام تغير المناخ ضمن قانون حماية البيئة في العراق يمكّن القدرات على تعزيز الاستدامة البيئية بشكل كبير من خلال إنشاء إطار تنظيمي قوي لجهود التخفيف، وتعزيز استراتيجيات التكيف، وتحسين القدرات المؤسسية، وخلق الفرص الاقتصادية، ومعالجة التحديات القائمة بشكل مباشر".
ومن خلال إعطاء الأولوية لهذه التدابير الآن، يمكن للعراق أن يعمل نحو مستقبل أكثر استدامة يوازن بين السلامة البيئية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
بدوره، يشير خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية رمضان حمزة، الى "أهمية الالتزام بالاتفاقيات الدولية من خلال المشاركة الفعالة في الاتفاقيات المناخية مثل اتفاقية باريس، وتلك المتعلقة بالتنوع البيولوجي، ما يعزز من التزام العراق بمواجهة التغير المناخي والحد من انبعاثات الغازات الدفيئة".
ويؤكد حمزة، على "دور القوانين المحلية وقانون حماية البيئة الحالي في هذا السياق، حيث يمكن لهذه القوانين أن تساهم في إلزام المؤسسات والمجتمع بمكافحة آثار التغير المناخي بشكل غير مباشر".
ويوضح أن "تطبيق قوانين بيئية صارمة على المستوى المحلي يمكن أن يعزز من جهود التكيف والتخفيف من تأثيرات التغير المناخي، هذه القوانين يمكن أن تشمل معايير بيئية محددة لإدارة الموارد الطبيعية والمشاريع التنموية، بالإضافة الى فرض عقوبات أو الزامات على المخالفات البيئية، من خلال تعزيز الامتثال والرجوع للقوانين المحلية".
تشريعات مناخية جديدة
من جهته، يسرد إبراهيم مهدي السوداني، وهو أكاديمي وعضو الوفد التفاوضي العراقي الدائم المفاوضات بالقضايا المتعلقة بالتغيرات المناخية، قصة رحلة العراق نحو تشريع قوانين جديدة، بالقول "في بداية تأسيس قانون حماية البيئة، لم يمتلك العراق حينها خبراء مختصين بمجال البيئة والتغيير المناخي، لذا ارتأينا الاقتباس من تجارب الدول المحيطة مثل الأردن والسعودية بعد قراءة القوانين الخاصة بهم لوضع قانون وطني يحاكي ما كان موجود آنذاك في المنطقة".
ويشير إلى أن "العمل الحقيقي للمناخ في العراق بدأ بعد عام 2015 عقب اتفاقية باريس، حيث بدأ العراق بتأسيس ما يعرف بالمركز الوطني للتغيرات المناخية في وزارة البيئة والذي بدأ باكورة عمله بالتزامن مع انطلاق اتفاقية باريس واستمر العمل الى أن تم تأسيس ما يسمى باللجنة الوطنية العليا للتغيرات المناخية في العراق، والتي ضمت أغلب الوزارات في العراق".
وبعد تفشي وباء كورونا عام 2020، تم الاتفاق، بحسب السوداني، على "إجراء بعض التحديثات على القانون أو تشريع قانون جديد من شأنه توفير الأرضية القانونية القادرة على التصدي للأزمات الناجمة عن التغير المناخي أو لتمويل مشاريع التكيف والتخفيف لخفض الانبعاثات، حيث نتج عن هذه المحاولات تشكيل لجنة مختصة من القانونيين وبعض الأقسام ومديرية التغيرات المناخية هدفها هو وضع رؤية لتعديل قانون البيئة النافذ، وذلك بإشراف وزير البيئة المهندس نزار أميدي".
ويشير السوداني، إلى أن التحديثات ستشمل أكثر من 50٪ من القانون الحالي، أي أنه سيصبح قانونا جديدا، ونحن الآن بصدد انتظار مسودة القانون الجديد لطرحها على التصويت في البرلمان خلال العام المقبل”، لافتا إلى "تضمين القانون لتشريع شركة اقتصاديات الكاربون، وهي شركة تنفيذية أو ذراع تنفيذي لتغطية المساحات بالتحسين البيئي وقضايا تجارة الأرصدة الكربونية وخفض الانبعاثات وغيرها من المشاريع التي يمكن أن تكون رافدة لوزارة البيئة".
من جانبه، يشير المحامي الاستشاري حسام رعد البهادلي، إلى "ضرورة إجراء تحليل شامل للمادة 27 من من قانون حماية البيئة لعام 2009 لتحديد مدى كفايتها في التصدي للتحديات المناخية المعاصرة في البداية، لكن الأمر يتطلب فحص النصوص الثانوية الحالية واستعراض أهداف القانون لضمان شموله التدابير اللازمة لمكافحة ظاهرة التغير المناخي واستخدام الطاقة المتجددة".
ويضيف البهادلي، أن "القانون العراقي أصبح مرنا أكثر من السابق ويقبل التشريعات الجديدة، لكن تأتي مشكلة قبول القانون من قبل الحكومة ومدى تأثير هذا القانون على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، إذ لا يمكن للدول إطلاق قانونه من شأنه أن يضر المجتمع أو الاقتصاد الدولي".
مفترق طرق
من جهته، يقول المدير التنفيذي للمرصد العراقي الأخضر عمر عبد اللطيف، “في غياب تشريعات مناخية حاسمة، يقف العراق على حافة كارثة بيئية لا ترحم ولا تستشفي، فالتصحر يلتهم أراضينا، وأزمة المياه تضيق الخناق على الزراعة، والجفاف يعصف بآمال المزارعين وأصحاب القرى، مجبرا إياهم على ترك قراهم المتهالكة الى مدن متخمة بالنازحين”.
ويضيف عبد اللطيف، "مع ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الهواء الملوث، تنتشر الأمراض كالنار في الهشيم، الأمر الذي يثقل كاهل النظام الصحي المتعثر أساسا، فالاقتصاد العراقي بدأ بالتآكل بفعل التغيرات المناخية ويتكبد خسائر لا تحتمل، وقد تقذف آثار تغير المناخ بالمزيد من العراقيين الى براثن الفقر والبطالة".
وينهي الناشط البيئي كلامه بالإشارة إلى أن "العراق يقف أمام مفترق طرق حاسم؛ فإما أن يتحرك بسرعة لتبني تشريعات مناخية صارمة تنتشله من هذا المصير المظلم، أو أن يغرق في دوامة غير متناهية من أزمات متشابكة تخنق كل أمل في المستقبل".
المصدر: وكالات