أحمد الناجي
ولد الأديب والناقد والمفكر محمد مبارك (1939-2007) في مدينة الحلة الفيحاء بمحلة الجامعين العريقة، وقد درس وتعلم خلال المراحل الدراسية الثلاث الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في مدارسها، وبموازاة التعليم الرسمي كان ينهل في تلك الآونة، وهو في مطالع العمر من ينابيع معرفية وثقافية أخرى، ذكر أحدها في حديث له، قائلاً: "... كنا قد تخرجنا في الدرس لا على مقاعد اعداديتنا في الحلة فقط، وإنما على يد علامتنا الشيخ عبد الكريم الماشطة في المنطق والفلسفة".
(محمد مبارك، مقاربات في العقل والثقافة) وبعد أن أجتاز كافة المراحل الدراسية بتفوق، حصل على بعثة دراسية الى مصر، فنال من جامعة القاهرة شهادة الليسانس في الأدب الانجليزي. عاد للعراق مطلع الستينيات، وبعد فترة استقر في العاصمة بغداد، أدرك معنى وجوده، وكان رهانه على ممكنات الذات، المقترنة بالثقة والإرادة، جد وأجتهد لكي يكون مقتدراً على فرض حضوره المتألق في عوالم مدينة السلام الثقافية.
شغف بالقراءة، وظل طيلة حياته مهجوساً بهذا المنحى، لازم الكتاب وجال متنقلاً بين متون التيارات الفكرية والفلسفية العالمية المعاصرة، وقد منحته خصيصة إتقان اللغة الانكليزية فسحة التواصل من قرب مع الثقافة العالمية، كما انغمر بالتقصي في أعماق التراث العربي الاسلامي، وراح ينقب عن التماعات تتوسد الكلمات بين طراريس الموروثات، سعياً وراء فهم حقيقي لما بين دفتيها من مضامين، فتابع من كثب مؤلفات عدد كبير من الأدباء والمفكرين والعلماء والمتصوفة والرحالة من أمثال: الكندي وأبي حيان التوحيدي والرازي وابن رشد والجاحظ والمتنبي والمعري والحلاج وأبي الريحان البيروني، وغيرهم الكثير.
عُرف اسمه في واجهة الوسط الأدبي بسبب نتاجه الرصين، وبانت اشتغالاته بعد جهد متواصل في ميادين الثقافة المتعددة، الأدب والنقد والفلسفة، وذاعت شهرته، حيث أثرى مشهدية النقد العراقي على وجه الخصوص بآراء لا تخلو من فيوضات النزوع الفلسفي، معبرة عن مسار إبداعي خاص ومميز عن سواه، وسط عديد من النقاد من مجايليه، وبوجود كثير من الاتجاهات النقدية الحديثة. ويعد بما امتلك من مؤهلات وما اكتنز من خبرات أحد خبراء الثقافة المعاصرة في البلد، تقلد مناصب ثقافية عديدة، عمل في مجال الاذاعة والسينما والمسرح، لم يهادن بفكره، ولم يتودد بقلمه، عاش حياته كلها بعيداً عن ترغيبات السلطة وهباتها، متمرداً على أشد أنساق الاحتواء الجائرة التي مورست من قبل النظام الدكتاتوري البائد. وقد تصدى الى العمل الإداري خارج العراق أيضاً، حيث تولى عدداً من المناصب الثقافية والصحفية المهمة، فقد غادر مطلع سنوات الثمانينيات الى دولة الامارات العربية المتحدة، وشغل منصباً رفيعاً في وزارة الثقافة هناك. وانتقل للعمل في الأردن إبان زمن الحصار الاقتصادي الجائر على البلد، إذ تسنم مسؤولية إدارة مكتب جريدة الزمان في عمان، وعاد للعراق سنة 2002، تولى بعد تغيير النظام السياسي 2003 رئاسة تحرير جريدة (القاسم المشترك)، ومن ثم انيطت به مسؤولية رئيس تحرير مجلة (الاقلام)، المجلة الثقافية المعروفة، وهي من اصدارات دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة العراقية.
مبدع يحوز على ثقافة موسوعية، ملتزماً بالفكر الماركسي، الذي وفر له امتلاك نظرة عميقة شكلت مسار تفكيره في الحياة والإبداع، لاسيما في تحليل الظواهر الإنسانية والاجتماعية وفق المنهج الجدلي، من حيث أن الجدل في رأيه: "يعلمنا أن كل شيء هو هو، وفي نفس اللحظة هو ليس إياه، هو شيء آخر سواه. إذن، فالاحتمال لا الحتم هو الذي يحكم سيرورة الأشياء…"، (حوار مع محمد مبارك، مجلة الشبكة العراقية) وبذلك القول، نحى محمد مبارك في لحظة ما الماركسية من ذهنه جانباً من دون أن يستبعدها أو يغفل عنها لحظة، وذلك طمعاً في الميل الى بقية الروافد المعرفية والفكرية التي حرص ان ينهل مما يعينه على تحقيق هدفه المرتجى، ويبدو لنا أن جنوحه الى ذلك متأت بقصدية تفادي سقوط الذهن في توجه أحادي يقود الى الأوهام، ونشداناً نحو تحقيق أقصى مدى في اكتمال الرؤية، وهذا الأمر فتح الآفاق الرحبة أمام تفكيره الإبداعي، وجعله متجدداً، وأبعده عن التقيد بالأطر السائدة والتدثر بعباءة المرجعيات النمطية، وانعكست حيثيات الرؤية المتعددة الأبعاد على نتاجاته الإبداعية الغزيرة، وأشار الناقد فاضل ثامر الى ذلك الأمر بقوله: "اختط محمد مبارك منذ البداية مساراً خاصاً به بين أبناء جيله من نقاد الستينات… وظل يحفر، بصبر وأناة، منهجه الشخصي… منهمكاً بفحص الحمولات الايديولوجية والسوسيولوجية والفلسفية للخطابات الأدبية المختلفة". (فاضل ثامر، محمد مبارك.. المشروع الفلسفي لم يكتمل، مقال) وتلمسنا معطيات ذلك المنحى على نحو بائن في تقديم قراءة استنطاقية للفكر الفلسفي منذ زمن الاغريق حتى يومنا الحاضر. توضحت كذلك في كتابة الأعمال المسرحية المنطوية على إعادة قراءة الموروث العربي الإسلامي، والتقاط ما تناثر فيه من التماعات، واستكشاف الأبعاد اللامرئية وتوظيفها لإثراء الحياة المعاصرة وفق رؤية حداثية متناغمة مع مفاهيم الحاضر العراقي، "وقد تناول سيّر شخصيات تاريخية ذات مكانة رمزية، من أمثال: المتنبي، أبو العلاء المعري، عروة بن الورد، أمية بن أبي الصلت، أبو الريحان البيروني، الرازي، الحلاج، والحجاج بن يوسف الثقفي. وكان لشطحات خياله حضور كبير في رسم أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية"، (عواد علي، تكييف السيرة الغيرية في المسرح العربي، مقال) وأخذت اشتغالاته المسرحية طريقها نحو خشبة المسرح، وبعضها عرض على شاشة التلفزيون.
اختطفه الموت على نحو غير متوقع، يوم الأربعاء 29 آب 2007، إذ كان متواجداً يومذاك في مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب، وتوجه بعد انتهاء الأصبوحة الثقافية مشياً على الأقدام الى بيته الواقع على أطراف بغداد، بسبب فرض حظر التجوال، حيث لفظ أنفاسه تحت وطأة ظروف الحياة الاستثنائية التي مرت على مدينة بغداد في تلك الفترة القاسية، غادرنا هذا المبدع الكبير الى بارئه، وهو في ذروة مرحلة النضوج، بعد مسيرة إبداعية شغلت زمناً مديداً، يقارب قارب نحو خمسة عقود من العطاء الفكري والأدبي الرصين، وقد بلغ منجزه التدويني أزيد من عشرين مؤلفاً في أجناس أدبية متعددة ومجالات معرفية متنوعة، وهي: (الكندي فيلسوف العقل، 1971). و(النموذج الثوري في شعر عبد الوهاب البياتي، 1972). و(مواقف في اللغة والادب والفكر، 1974). و(دراسات نقدية في النظرية والتطبيق، 1976). و(نظرات في التراث - دراسات في الفكر الإسلامي الوسيط، 1986). و(محاولة في فهم الشخصية الفرد العراقي، 1994). و(الجابري بين طروحات لالاند وجان بياجيه، 2000). و(مقاربات في العقل والثقافة، 2004). و(الوعي الشعري ومسار حركة المجتمعات العربية المعاصرة، 2004). و(مقالات في الفلسفة العربية الاسلامية نشوار القراءة الفلسفية، 2013). كنا أنجز نحو عشرة مسرحيات نشرها في كتب على فترات مختلفة، ثم صدرت بعنوان: (مسرحيات عربية في ثلاثة مجلدات، 1990، 1991، 2006). هذا فضلاً عن نشر العديد من البحوث والدراسات في الصحف والمجلات العراقية والعربية.ولد الأديب والناقد والمفكر محمد مبارك (1939-2007) في مدينة الحلة الفيحاء بمحلة الجامعين العريقة، وقد درس وتعلم خلال المراحل الدراسية الثلاث الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في مدارسها، وبموازاة التعليم الرسمي كان ينهل في تلك الآونة، وهو في مطالع العمر من ينابيع معرفية وثقافية أخرى، ذكر أحدها في حديث له، قائلاً: "… كنا قد تخرجنا في الدرس لا على مقاعد اعداديتنا في الحلة فقط، وإنما على يد علامتنا الشيخ عبد الكريم الماشطة في المنطق والفلسفة".