بغداد / تبارك المجيد
تشهد بغداد ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الإيجارات، مما يثير قلق السكان وخاصة الشباب الباحثين عن سكن مناسب. في ظل غياب التنظيم الحكومي وتزايد سيطرة المستثمرين على قطاع العقارات، يجد المواطن العراقي نفسه عاجزًا عن تحمل تكاليف السكن في العاصمة. بينما تعلن الحكومة عن مشاريع جديدة لمعالجة الأزمة، يتساءل العديد عن جدواها في مواجهة واقع اقتصادي متدهور.
ومع تجاوز قيمة الإيجارات في وسط المدينة، مبلغ 800 دولار شهريًا، وارتفاع إيجارات المنازل متوسطة المساحة إلى 3 آلاف دولار، يجد الشباب صعوبة في تأمين سكن يتناسب مع دخولهم المحدودة.
هذا الوضع دفع الكثيرين للانتقال إلى أطراف العاصمة حيث تكون الأسعار أقل، في ظل غياب خطط اقتصادية حكومية واضحة وسيطرة جهات متنفذة على قطاع الاستثمار العقاري، مما يعمّق أزمة السكن في بغداد قياسا بمحافظات أخرى.
مدن سكنية جديدة!
وأعلنت وزارة الإعمار والإسكان عن إحالة خمس مدن سكنية جديدة من الجيل الأول إلى المستثمرين في إطار الجهود الرامية لحل أزمة السكن في البلاد. وأوضح نبيل الصفار، المتحدث باسم الوزارة، أن هذه المدن تشمل مدينة الجواهري في أبو غريب ومدينة علي الوردي في النهروان ببغداد، بالإضافة إلى مدينة الغزلاني في الموصل، ومدينة ضفاف كربلاء في كربلاء، ومدينة الجنائن في بابل.
وأشار الصفار، في حديثه لـ (المدى)، إلى أن «اثنتين من هذه المدن قد وصلت إلى مرحلة تسليم الأراضي للمستثمرين، ومن المتوقع أن توفر هذه المشاريع ما يقارب 220 ألف وحدة سكنية كمرحلة أولى». وأكد أن الجيل الثاني من المدن السكنية سيشمل ست محافظات أخرى هي النجف، واسط، ذي قار، ميسان، السماوة، وصلاح الدين، ومن المتوقع أن توفر حوالي 100 ألف وحدة سكنية كدفعة أولى.
الوزارة تعمل حاليًا على إزالة التعارضات المتعلقة بالأراضي وتسليمها للمستثمرين فور حل المعوقات، تحت إشراف فريق مشترك برئاسة وزير الإعمار والإسكان وبالتعاون مع الهيئة الوطنية للاستثمار. وأوضح الصفار أن الوزارة أعدت أكثر من 20 تصميمًا أساسيًا لمدن سكنية في مختلف المحافظات، مع التأكيد على أهمية الاستمرار في تنفيذ هذه المشاريع خلال السنوات المقبلة لتقليل الفجوة السكنية.
وتقدر الوزارة حاجة العراق إلى حوالي 3 ملايين وحدة سكنية لمعالجة أزمة السكن الخانقة. ورغم إطلاق الحكومة قروضًا لدعم بناء الوحدات السكنية، إلا أن المواطنين يواجهون صعوبات في الحصول على قطع الأراضي اللازمة للبناء، نظرًا لأن العديد من الأراضي المتاحة هي أراضٍ زراعية، في حين ترتفع أسعار الأراضي السكنية بشكل كبير.
أسباب الأزمة وتدخل الحكومة
يتحدث المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، في حديث لـ(المدى)، حول مشكلة السكن في العراق أن «البلد مرّ بمرحلتين رئيسيتين فيما يتعلق بالسكن العمودي أو الجماعي. الأولى كانت حين سيطر السوق العقاري على قطاع السكن، حيث تحكمت قوى السوق في الأسعار والعروض. المستثمرون استحوذوا على أفضل الأراضي في المدن التي تمتلك بنية تحتية جيدة، مما جعل أسعار الشقق مرتفعة ولا تتناسب مع قدرات الطبقة المتوسطة»، وأشار إلى أن «الشقق التي تم شراؤها كانت بشكل أساسي من قبل الطبقة المتوسطة العليا، بينما الطبقة المتوسطة العادية لم تستطع تحمل تلك التكاليف».
وذكر صالح، أن «العراق يعاني من نقص كبير في الوحدات السكنية، حيث يحتاج إلى أكثر من ثلاثة ملايين وحدة سكنية، إضافة إلى وجود حوالي ثلاثة آلاف تجمع عشوائي يعيش فيها نحو أربعة ملايين شخص»، وبيّن أن «الحكومة، وفقاً لمنهاجها الحالي، تسعى إلى التدخل في قطاع السكن بشكل أكبر».
وأشار إلى أن «الحكومة قامت بإنشاء ثلاث مدن في بغداد تحت إشراف الدولة، بأسعار معقولة وبشروط مريحة تتناسب مع دخل الأسر، مما يعكس تحولاً في سياسة الدولة نحو دعم السكن الملائم للطبقة المتوسطة». كما دعا صالح إلى «تبني مشاريع بناء سكن بسيط ومنخفض الكلفة للفئات الأكثر فقراً، بحيث يكون سكنًا كفؤًا وجميلًا وملائمًا لاحتياجات الطبقات الفقيرة»، مقترحًا أن «تكون هذه المرحلة هي المرحلة الثالثة من تطور قطاع الإسكان في العراق، حيث تشمل تحويل المناطق العشوائية إلى مساكن لائقة وذات تكلفة مناسبة، ليتمكن الفقراء من العيش في ظروف أفضل».
في المجمل، يرى صالح أن هناك ثلاث مراحل للسكن في العراق: المرحلة الأولى التي سيطر فيها السوق العقاري على القطاع؛ المرحلة الثانية التي تتدخل فيها الحكومة لبناء مدن سكنية بأسعار معتدلة؛ والمرحلة الثالثة المحتملة التي تستهدف بناء مساكن منخفضة الكلفة للفئات الفقيرة، وتحويل العشوائيات إلى مناطق سكنية رسمية.
الهجرة أحد الأسباب
وحددت لجنة الخدمات والإعمار النيابية، في وقت سابق، أسباب ارتفاع أسعار العقارات في بغداد. وقال عضو اللجنة، محما خليل، في حديث، إن «السبب الأول يتمثل بعدم توزيع الحكومات العراقية، الأراضي ضمن حدود بلدية العاصمة لسنوات عديدة». وأضاف، أن «السبب الثاني يدور حول زيادة أعداد نفوس أهالي العاصمة، بالإضافة إلى غياب الرؤى الحكومية المستقبلية، حول قطاع المباني السكنية، ووضع خطط استثمارية لاستيعاب زيادة الأعداد السكانية». وأشار خليل إلى «الهجرة السكانية العكسية من المحافظات إلى العاصمة، والذي أدى إلى زيادة عدد نفوسها».
في ظل غياب تنظيم حكومي لقطاع الإيجارات، تتفاقم أزمة السكن في العراق مع تفاوت كبير في أسعار العقارات. يقول ذلك محمد الشمري، مراقب سياسي، ويضيف أن «الحكومة لا تلتزم بقوانين تنظم الإيجارات حيث هناك فوضى في هذا الجانب»، مشيرًا إلى أن «المال السياسي يتحكم في ملف الإسكان رغم أن الدستور يكفل حق السكن للمواطنين».
وبين الشمري لـ(المدى)، أن «أزمة السكن من أبرز مطالب الاحتجاجات الشعبية، حيث ترتفع أسعار الأراضي والمنازل في بغداد بشكل غير مسبوق، ما يجعل الحصول على سكن مناسب صعبًا لأصحاب الدخول المحدودة. وأكد أن «المجمعات السكنية تُستخدم كوسيلة لغسيل الأموال، مع وجود احتكار للسوق العقاري من قِبل المستثمرين المرتبطين بالسلطة، مما يفاقم الأزمة دون حلول استراتيجية».
سياسات خاطئة!
ويعزو الباحث الاقتصادي عبد السلام حسن حسين زيادة الاسعار إلى دور الحكومة والمتنفذين في السوق العقاري. في حديثه لـ(المدى)، أكد حسين أن «الحكومة تدعم المتنفذين والمستثمرين من خلال منحهم الأراضي بأسعار منخفضة»، مشيرًا إلى أن هذا الدعم يتمثل في تخصيص المناقصات من قِبَل الحكومات المتعاقبة. ويضيف أن الأراضي لم تُمنح للمواطنين العاديين أو التجار، بل للأشخاص الذين يستخدمونها لمصالحهم الشخصية.
يستنكر حسين استغلال الأراضي الحكومية بشكل غير عادل، حيث تُباع بأسعار منخفضة ثم يُعاد بيعها بأسعار مرتفعة، مما يزيد من صعوبة حصول المواطنين على سكن. وأوضح أن أسعار الشقق قد تجاوزت الحدود المقبولة، حيث يصل سعر الشقة في الطوابق العليا إلى 450 مليون دينار عراقي، بينما تتراوح أسعار الأراضي بين 750 مليون دينار، مما يشكل عبئًا كبيرًا على المواطنين ذوي الدخل المحدود.
إضافة إلى ذلك، أشار حسين إلى تأثير الضرائب المفروضة على العقارات من قبل وزارة المالية، حيث تفرض ضريبة بنسبة 9% إلى جانب الرسوم التي تطبقها أمانة بغداد. هذه الضرائب تجعل من الصعب على المواطنين تقسيم عقاراتهم أو الحصول على تمويل.
يُحَمّل حسين السياسات الحكومية الفاشلة مسؤولية الوضع الاقتصادي الحالي، موضحًا أن ارتفاع الأسعار يعود إلى السياسات الاقتصادية الخاطئة. ويؤكد أن زيادة الأسعار تؤثر على جميع جوانب حياة المواطنين، مما يتطلب تدخلًا حكوميًا سريعًا. ورغم قدرة الدولة على السيطرة على الأسعار، يتساءل حسين عن الإرادة السياسية لتحقيق ذلك، مشيرًا إلى أن المشكلة ليست فقط في الفساد، بل في النظام الاقتصادي الذي يتيح للمتنفذين التحكم في السوق العقاري على حساب المواطنين.
يختتم حسين بتأكيد الحاجة إلى شفافية حكومية واستجابة أكبر لاحتياجات المواطنين، لمساعدتهم في مواجهة التحديات الاقتصادية المتفاقمة.
أزمة الإيجارات في بغداد: من يسيطر على السوق وأين الحلول؟
نشر في: 8 أكتوبر, 2024: 12:09 ص