د. زين حسين
باختيار موضوعي واختبار ذاتي لتجربة زعيم نصّار الشعرية أرى أنّ الماء عنصر أساسي فيها، إذ نجده يمثل ظاهرة مهيمنة في مجموعتيه الأخيرتين (ماء غريب، وموجتان في زورق)، ولأنَّ دال الماء مفتوح على احتمالات متعددة منها ارتباطه بالزمن كالرحيل المستمر والجريان بلا عودة، والانسيابية كما في الأنهار، أو يعبر عن الركود والثبات كما في البرك والبحيرات، ويرتبط كذلك بالموت والدمار كما يظهر في الفيضانات والغرق، لكنَّ عند زعيم نصار يرتبط الماء بدلالات (الصفاء الروحي/ الروحانية الجمالية) من الحياة، فالماء في قصيدته لا يغسل الحياة والجسد وحدهما بل الأرواح والموتى أيضاً، بوصفه الماء الحيّ الذي يحلُّ اخضراره على الأرض بكل كائناتها.
يظهر ذلك جليًا في مجموعته (ماء غريب) حيث الحنين إلى الطفولة ولحظات التشكل الأولى على نهر الغراف، ففي هذه المجموعة تتكرر دوال (الماء، النهر) كما يتكرر دال (الملاك) كثيرًا، والعلاقة ما بين الماء والملاك (روحانية)، ومن روحانية الطفولة ينتقل زعيم نصار إلى الحب في مجموعته الأخيرة ( موجتان في زورق)، وربط الشاعر كلا التجربتين بالماء، فالعتبة النصية للمجموعة (العنوان، والغلاف) توجهنا قرائيًّا، ومعجم الماء (أمواج، زورق، ينبوع، بئر، أمطار، هور) هو معجم الشاعر في هذه المجموعة، وبالرغم من أنَّ عنوان المجموعة يشي باجتماع موجتين، وطبيعة الموجة تحدث صخب وعنف، لكن اجتماع موجتي زعيم نصار هادئة ومسترخية، وهذا يتسق مع مضمون المجموعة (الحب)، الذي يفسره العنوان وهو لا يخلو من بعد ايروتيكي كما في اجتماع الموجتين في الزورق(السرير)، فالغنائية تهيمن على إيقاع المجموعة بالكامل في المعنى والمبنى.
إنّ ارتماء الذات الشاعرة في الماء كي تنجو، يدل على التخلّص من الشعور المؤلم بزوال الحبّ وفقدانه، فنصوص الديوان تكاد تهرب من الموت الجاثم على صدر الحياة، يُخيل اليَّ أنّ زعيم نصّار في اتحاده مع الموجتين يحاول أن يعثر الحبّ ويعيد تعريفه، ويتعرّف على نفسه إذ يعود الى استدعاء هذه المياه الكونية.
بناء القصيدة عند زعيم النصار في مجموعة (موجتان في زورق) يعتمد على أسلوبه في التعامل مع اللغة والتركيز على الأسلوب السردي في بعض الأحيان، وأغلب النصوص تأتي غير محددة ببنية صارمة مما يعطيه حرية كبيرة في التنقل بين الأفكار، وعادة ما يستخدم السرد كجزء من البناء الشعري حيث يعتمد على تقنيات السرد للتقدم في الموضوع مما يضيف بعدًا دراميًا للنص الشعري وهو يعبر عن عاطفة كيانية تجعل القصيدة في حركة صعود شاهقة لينتصر الحبّ على الموت إذ يتفجر معهما ينبوع الصراع، وهو ينبوع الكتابة الشعرية ذاته.
ومصداق هذا القول نص (كتاب الديناميت أو قنبلة معصوبة العينين) الذي يتحدث عن كتاب خرج منه وباء الشر لينشر الموت في المدينة، فيقول(ص79):
«الذي كان يصول ويجول
كضبع أعرج مسعور
بين النهارات والنهرين
انبثق مع الكلمات
من ينبوع الكتاب
لم يقفل الباب وراءه
تركه مواربًا
فانتشر الوباء»
وبالرغم من أنَّ (الموت) يمثل مضمون النص، لكن عالج هذا النص بـ(موضوع) هو كيف تشكل هذا الموت؟ وهذا أبرز ملمح يمثل تجربة الشاعر زعيم نصار، فبناء النص عنده يتشكل من مضمون وموضوع يبثهما الحضور الأبدي الذي تنقله لنا الموجتان المتحدتان بحبهما في زورق واحد، زورق يجمع الثنائيات في عين الجمع ليخلصها من الموت والفقدان والتشظي والشتات والغرق.
إنّ من المهمات الجوهرية للقصيدة الحديثة هي الغاء المضامين القديمة ورفضها كي يتمّ نسيان مدلولها المتداول الشائع،
ومثال آخر على معمار القصيدة عنده نص (لعبة الليل أو شعلته) فبناء القصيدة من أهم التقاليد التي يعمد الشاعر العمل عليها، ويلجأ لاستعمال هذه التقنية في الكتابة لضرورات مضمونية فرضها عليه موضوع القصيدة، وهذا البناء المنفتح على تقنيات السرد والمتدفق يمثل خصوصية في تجربة زعيم النصار، فقد أخلص لهذا البناء التأليفي في أغلب نصوصه حتى في غير نصوص مجموعة (موجتان في زورق)، بموضوعها الشعري الذي وحّد جميع المضامين الذاتية المتراكمة والمتعاقبة ليقودها مثل نوتيٍّ خبير بالأمواج العاتية لينجو بزورقه.
موجتان في زورق.. الماء الحيّ بوصفه روح الكتابة الشعرية
نشر في: 9 أكتوبر, 2024: 12:01 ص