TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ضجيج الدجاجة:عندما يتحول الصخب إلى أداة لتسويق الوهم

ضجيج الدجاجة:عندما يتحول الصخب إلى أداة لتسويق الوهم

نشر في: 17 أكتوبر, 2024: 12:02 ص

د. طلال ناظم الزهيري

عالم اليوم يزخر بالضوضاء والضجيج التي يفتعلها أشخاصًا يسعون جاهدين لتسويق أعمالهم البسيطة على أنها إنجازات عظيمة وذلك من خلال إثارة الضجيج حول ما يقومون به في محاولة منهم لتضخيم أثرهم وجعل الآخرين يعتقدون أن ما أنجزوه غير مسبوق. يمكن تشبيه هذه الحالة بما أطلق عليه "ضجيج الدجاجة". فكما أن الدجاجة غالبا تصدر الكثير من الضوضاء بعد وضع البيضة وكأنها أنجزت أمرًا خارقًا رغم أن وضع البيض هو فعل روتيني ومتكرر لكل الدجاج. كذلك نجد الكثير من الأفراد والمؤسسات يستخدمون نفس الأسلوب لتمجيد أعمالهم المتواضعة.
في عالم الفن أو الرياضة أو السياسة على سبيل المثال نجد العديد من الأمثلة على أشخاص حاولوا تسويق أعمالهم الصغيرة على أنها إنجازات هائلة من خلال اثارة الصخب الإعلامي بمساعدة وسائل اعلامية او قنوات رقمية. على سبيل المثال في عالم الفن نجد بعض الفنانين الذين يروجون لأعمال فنية محدودة القيمة الإبداعية من خلال الاعتماد على ضجيج الإعلام ومتابعيهم مما يخلق انطباعًا مضللًا بأنها أعمال عظيمة. كذلك في السياسة قد نشهد مسؤولين يبالغون في تقديم مشروعاتهم الصغيرة كتحولات كبرى عبر مؤتمرات واحتفالات ضخمة على الرغم من أن الأثر الفعلي لتلك المشاريع ضئيل. فلا عجب ان تجد ممثلا للشعب يتهجم على صاحب مولد الكهرباء هنا او هناك وينذره بالويل والثبور امام عدسات الهواتف المحمولة ليصبح ترند على الرغم ان هذا الامر لا يقع في اطار مسؤوليته القانونية. وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي تتزايد هذه الظاهرة حيث يستخدم بعض المؤثرين والمشاهير ضجيج المنصات الرقمية للترويج لمنتجات أو أفكار لا تحمل قيمة حقيقية. فالضوضاء والصخب هو جزء أساسي من هذا التسويق حيث يتم التركيز على الكم لا على الكيف.
على الجانب الآخر هناك أمثلة عديدة على إنجازات حقيقية وعظيمة لم تنل نصيبها من الاعتراف أو التقدير وذلك لأسباب اجتماعية او سياسية أو عنصرية. قد نجد علماء قدّموا اكتشافات أو ابتكارات غير مسبوقة ولكن لم يسلط عليهم الضوء لاعتبارات معينة كالتهميش الاجتماعي أو حتى التمييز العنصري. على سبيل المثال العديد من النساء والعلماء من أصول غير أوروبية لم يحصلوا على التقدير الكافي لأعمالهم العظيمة بسبب النظام الاجتماعي الذي يحابي مجموعة على أخرى. أحد الأمثلة الشهيرة هو عمل العالمة روزاليند فرانكلين (Rosalind Franklin) كانت عالمة في مجال الكيمياء الحيوية وعلم البلورات بالأشعة السينية. وُلدت في 25 يوليو 1920 وتوفيت عن عمر يناهز 37 عامًا. تُعتبر من الشخصيات العلمية البارزة بسبب دورها الأساسي في اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (DNA) على الرغم من أن فرانكلين أسهمت بشكل كبير في علم الوراثة فإن عملها لم يحظَ بالتقدير المناسب في حياتها. يُعتقد أن بعض التحيزات الاجتماعية المتعلقة بكونها امرأة في مجال علمي مهيمن عليه من قبل الرجال كانت سببًا في تهميش دورها. وفي مقاربة اخرى نذكر الدكتور مصطفى مشرفة كان فيزيائيًا مصريًا بارزًا وكان من أوائل العلماء الذين بحثوا في نظرية النسبية التي طرحها ألبرت أينشتاين. مصطفى كان معروفًا بأبحاثه الرائدة في الطاقة النووية والفيزياء النظرية. على الرغم من إنجازاته الكبيرة لم يتم تكريمه بالشكل المناسب عالميًا ويرى البعض أن كونه عربيًا قد لعب دورًا في تهميشه. حتى بات يعتقد أن وفاته المفاجئة في 1950 في ظروف غامضة كانت بسبب مخاوف غربية من عمله في مجال الطاقة النووية في العالم العربي. فالمناخ السياسي العالمي وتأثير اللوبيات في المجتمع العلمي أحيانًا يترك أثارًا على توزيع الجوائز وخاصة إذا كانت الظروف السياسية للمرشح تعتبر "حساسة".
إذا ما انتقلنا إلى المؤسسات الجامعية العراقية نجد أن هذه الظاهرة تتجلى بشكل أكبر وأوضح. هناك تحالف غير معلن قد يُطلق عليه "تحالف الجهلاء" يهدف إلى تهميش العلماء الحقيقيين وأصحاب الإنجازات العلمية الرصينة. هذا التحالف يعتمد على إبراز من هم أقل كفاءة ومعرفة فقط لأنهم يمتلكون القدرة على إثارة الضجيج حول أنفسهم أو لأن لديهم شبكات من العلاقات الشخصية التي تدعمهم. وقد تساهم المنظومة الإدارية في الجامعات العراقية في تعزيز هذا التحالف وتعمل على تكريس هذا الوضع المؤسف. فلا شك ان احد الأسباب الرئيسية وراء ذلك هو أن الإدارة العليا التي يجدها البعض منحازة إلى تقديم من هم أقل كفاءة على الأكفاء في المناصب الادارية المهمة لضمان الولاء والطاعة. فعندما يكون الشخص قليل الكفاءة في موقع قيادي فإنه يكون أكثر اعتمادًا على الجهة التي منحته هذا المنصب وبالتالي يكون أكثر ولاءً وأقل اعتراضًا على السياسات المفروضة. في هذا السياق تتحول الكفاءة العلمية إلى عامل ثانوي بينما يُصبح الولاء هو المعيار الأساسي للترقيات وتقلد المناصب. وعليه يمكن القول ان "تحالف الجهلاء" في الجامعات العراقية لا يقتصر على مجرد تهميش العلماء بل يؤدي إلى نتائج كارثية على مستوى التعليم العالي ككل. فعندما تصبح المؤسسات الأكاديمية منصات لتضخيم الأفراد عديمي الكفاءة فإن الجامعات تفقد هدفها الأساسي وهو تعزيز العلم والبحث والابتكار. العلماء الحقيقيون الذين كان يمكن أن يكونوا محركًا للتقدم والازدهار يتم تهميشهم وإسكاتهم مما يؤدي إلى فراغ علمي وأكاديمي. و للخروج من هذا المأزق يجب أن تركز الجامعات على استعادة القيم الأكاديمية الحقيقية من خلال: تشجيع العلماء الحقيقيين وتقديمهم إلى مقدمة المشهد العلمي. مع التاكيد على اهمية العمل على إصلاح السياسات الإدارية في الجامعات وجعل الكفاءة العلمية معيارًا أساسيًا في التوظيف والترقية مع تعزيز الشفافية والمحاسبة في جميع المجالات الأكاديمية والإدارية. فضلا عن اهمية تشجيع ثقافة الابتكار والنقد البناء بدلًا من ثقافة الطاعة العمياء. إذا لم يتم اتخاذ هذه الخطوات ستستمر الجامعات العراقية في التراجع وسيظل العلماء الحقيقيون مهمشين بينما يتصدر "تحالف الجهلاء" المشهد الأكاديمي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد خالد عيدان

    منذ 4 شهور

    في الحقيقة مقالة رائعة جداً يا دكتور طلال وهذا ليس بجديد على شخص مثلك متمرس ومتمكن صاحب خبرة وموضوع المقالة أيضا يعتبر من اهم المشاكل المعاصرة في وقتنا الحاضر وكما اشرت ان اتحاد الجهلاء هو المسيطر للأسف لانه قائم على اسس مزيفة لاتنتمي للعلم والمعرفة

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بروتوكولات مقهى ريش

العمود الثامن: جيوب نظيفة!!

العمود الثامن: الفشل بامتياز

قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

الديمقراطية..لا تصلح لشعب يحكمه فاسدون

العمود الثامن: القاهرة واستذكار بغداد

 علي حسين تقيم معظم البلدان متاحف لفنونها وحضارتها، ومتاحف اخرى تحتفظ فيها بكنوز الفن العالمي، لكي تذكّر الأجيال القادمة بالذين نثروا ألوانهم وأقاموا النصب المرمرية، لأن الذاكرة البشرية بحاجة إلى تذكّر ان التاريخ...
علي حسين

كلاكيت: عدي رشيد في «أناشيد آدم» سعي للنهوض بوعي المتلقي من أجل إثارة الأسئلة

 علاء المفرجي تأريخ السينما العراقية طويلا قياسا الى مثيلاتها باقي شعوب المنطقة، فالسينما العراقية لم تبدأ بالإنتاج إلا في منتصف الأربعينيات، ولم يكن الإنتاج الأول، إلا انتاجا مشتركا مع مصر، ولم تستطع منذ...
علاء المفرجي

المنظومة السلطوية في العراق والتغيير المطلوب

د. كاظم المقدادي (2-2)التغيير الجذري ضرورة اًنية وملحةمطلب التغيير الجذري والشامل للمنظومة السلطوية في العراق، الهادف لأقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة الإجتماعية،الضامنة للحياة الحرة الكريمة والمستقبل الأفضل لكافة أبناء وبات شعبنا، دون...
د. كاظم المقدادي

الشُّعوبيَة والشّعبويَّة.. لكلٍّ زمنه

رشيد الخيون يعيد اِصطلاح "الشَّعبوبيَّة" اليوم إلى الأذهان الحركة "الشُّعوبيَّة" في الأمس البعيد، مع أنَّ كلاً له زمنه ودلالته، كلاهما منحوتان مِن "الشَّعب" و"الشُّعوب". نَعتَ البعضُ بالشَّعبويَّة الرئيسَ الأميركيّ دونالد ترامب، في حملته الانتخابيّة...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram