فراس ناجي
لابد من فهم السياق الجيوستراتيجي للحرب المحتدمة في المنطقة بين إسرائيل وداعميها من جهة وما بين محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي من جهة اخرى، قبل تقييم محصلة الاحداث في هذه الحرب ومحاولة رسم المسارات المحتملة في ضوء ذلك.
لقد عانى المشرق الإسلامي – الذي كان قطبا جيوستراتيجيا عالميا لأكثر من ألف سنة - من ضعف جيوسياسي مزمن منذ سقوط الدولة العثمانية وتقاسُم البريطانيين والفرنسيين تركتها في المشرق العربي. فما عدا حقبة الخمسينيات والستينيات التي تأثرت بانتشار الحركات التحررية في العالم الثالث وتأسس فيها نظام إقليمي عربي تحت عنوان القومية العربية وبقيادة مصرية في عهد جمال عبد الناصر، ظلت الدول العربية منتظمة في نظام تديره القوى الغربية من خارج الإقليم.
في عشيّة معركة طوفان الأقصى، كان هناك صراع إقليمي بين مسارين. الأول يسعى الى تقويض عملية السلام التي بدأت في أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1993، عبر ستراتيجية قدمها المحافظون الجدد الأمريكيون في 1996 لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في أول دورات حكمه تستند على تبديل مبدأ "الأرض مقابل السلام"، الى "السلام مقابل السلام" و"السلام عبر القوة". لقد تحققت نجاحات مهمة في هذا النطاق مثل الاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة لإسرائيل وبسيادة إسرائيل على الجولان، وتشريع قانون"إسرائيل- الدولة القومية للشعب اليهودي" الذي يحصر ممارسة حق تقرير المصير بالشعب اليهودي، بالإضافة الى رفض الكنيست لإقامة دولة فلسطينية "غرب الأردن" ويعتبرها تشكل "خطرا وجوديا على دولة إسرائيل". وفي نفس الوقت نجحت إسرائيل في إبرام اتفاقات ابراهام للتطبيع والتكامل الاقتصادي مع الامارات والبحرين والمغرب والسودان، وتم الإعلان عن مشروع "الممر الاقتصادي" مع الهند لمرور التجارة من اسيا الى أوروباعبر الجزيرة العربية وميناء حيفا الذي كانت السعودية مرشحة للانضمام اليه. كما استثمرت اسرائيل القلق العربي من توسع النفوذ الإيراني في المنطقة لبناء منظومة أمن إقليمية بينها وبين الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة الامريكية تتضمن تبادل المعلومات ودمج منظومات الدفاع الجوي.
أما ايران - التي تمّ اقصائها عن مؤتمر مدريد للسلام في 1991 وفرض العقوبات عليها – فقد أسست ستراتيجيتها على مناهضة المشروع الأمريكي للشرق الأوسط من خلال دعم حركات المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل في لبنان وفلسطين التي أحرزت نجاحات باهرة ليس فقط في تحديها العسكري والسياسي لإسرائيل، بل أيضا في خلق جبهة اسناد مجتمعية لها. ثم توسعت حركات المقاومة لتشمل أطراف في سوريا والعراق واليمن، مُشكِلّة ما يُعرف الان بمحور المقاومة ضد إسرائيل.
لكن معركة طوفان الأقصى والحرب بين إسرائيل ومحور المقاومة الجارية الان قوّضت الإنجازات الستراتيجية للمعسكر الصهيوني وخلقت مشهدا جيوستراتيجيا جديد تماما في المنطقة، رغم الخسائر الفادحة على مختلف المستويات للمقاومين وقادتهم ومجتمعاتهم. فمحور المقاومة تحوّل الى تحالف عسكري بأدوار متكاملة بين جبهات غزة وجنوب لبنان وممر الامدادات العراقي-السوري المرتبط بالعمق الستراتيجي الإيراني، مع تفعيل جبهة مضيق باب المندب لحصار إسرائيل بحريا. كل ذلك ساهم في شن حرب استنزاف ناجحة وبصورة غير مسبوقة في قلب فلسطين المحتلة بحيث تم تهجير أكثر من مئة ألف إسرائيلي عند حدود غزة وجنوب لبنان. كما تحولت القواعد الامريكية في المنطقة الى أهداف محتملة للقدرات الصاروخية والجوية لمحور المقاومة في حالة نشوب صراع عسكري، ما حدا بالجنرال كينيث ماكنزي القائد السابق للقيادة المركزية للجيش الأمريكي للدعوة الى نقل هذه القواعد الى خارج غرب اسيا. كذلك فشل التحالف العسكري بقيادة أمريكا – الذي امتنعت مصر والسعودية والامارات عن المشاركة فيه - في ردع حكومة صنعاء الحوثية عن أغلاق مضيق باب المندب بوجه المرور البحري المتجه الى إسرائيل.
وفي نفس الوقت، تعمقت علاقات الدول العربية بالأطراف التي تتحدى الهيمنة الامريكية، فانضمت كل من الامارات ومصر مع إيران رسميا الى مجموعة بريكس المنافسة لمجموعي الجي 7 الغربية (فيما لا تزال السعودية تدرس موقفها النهائي). كما حافظت السعودية على علاقاتها المُطبَّعة مع إيران (بوساطة صينية) وعلاقتها القوية مع روسيا في سوق النفط، وتعاونت مع الصين في تأسيس نظام تحويلات مالي Mbridge يتجنب التعامل بالدولار الأمريكي. وفيما لايزال مشروع الممر الاقتصادي مع الهند حبراً على ورق، تستمر عملية بناء البنية التحتية لتواصل الأسواق الاسيوية مع أوروبا من خلال مشاريع واقعية خارج الهيمنة الأمريكية وبنسب انجاز عالية مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومشروع تطوير ميناء الفاو وطريق التنمية بين العراق وتركيا، والاستثمار الهندي في تطوير وتشغيل ميناء تشابهار الإيراني على خليج عمان وربطه بممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يربط الهند بروسيا عبر إيران.
وعلى الضد من سعي اليمين الإسرائيلي عبر عقود لترويج فكرة امكانية التكامل الاقتصادي والأمني مع المحيط العربي بدون تقديم أي تنازلات باتجاه الدولة الفلسطينية، تحوّل الوعي الإقليمي والعالمي للإيمان بمحوريةحل القضية الفلسطينية اذا كان للأمن والاستقرار ان يتحقق في الشرق الأوسط. كما تحولت إسرائيل الى دولة مارقة ومنبوذة عالميا تحت طائلة المحاكم الدولية يقودها فاشيون وعنصريون لا يحجمون عن ارتكاب أفظع الجرائم في سبيل تحقيق أهدافهم السياسية المنافية للقانون الدولي.
السؤال الان الذي تواجهه الجماهير في دول المشرق العربي التي تتحمل العبء الأكبر من أثمان هذه الحرب المدمرة، هو الى أين يكون المسار بعد عمليات الإبادة الجماعية ضد فلسطينيي غزة والدمار الذي لحق بلبنان واحتمالات الدمار المتبادل بين إسرائيل وإيران؟
هناك نوع من الاجماع في دوائر المختصين سواء الاكاديمية أو المهنية ان النجاحات التكتيكية التي تحققهااسرائيل ضد محور المقاومة سواء في تدمير المنشآت والبنى التحتية أو في الايغال في قتل المدنيين أو حتى في ضربات الصدمة مثل الاغتيالات وتفجير أجهزة الاتصالات، لا يمكنها تعويضالخسارة الستراتيجية لإسرائيل في هذه الحرب. فقد فشلت إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المُعلنة سواء في القضاء على المقاومة في غزة، أو في ارجاع الأسرى الإسرائيليين، او في إعادة نازحي شمال إسرائيل الى مساكنهم. ان استمرار حرب الاستنزاف الجارية الان لا تصب في مصلحة إسرائيل بمجتمعها المنقسم ومهجريها الداخليين وتفاقم هروب الاستثمارات من اقتصادها المأزوم، ما أدّى بإيلان بابيه – وهو أكاديمي إسرائيلي ومؤرخ في جامعة إكستير بالمملكة المتحدة – أن يعّد إسرائيل اليوم وبعد عام من هذه الحرب دولة فاشلة تسير بنفس الاتجاه الذي سارت فيه سوريا وليبيا. في المقابل تمتلك قوى المقاومة سجل حافل في تراكم القوة والسيطرة على الأرض من خلال الصمود والتلاحم مع مجتمعاتها بما يعزز قدرتها في حرب الاستنزاف هذه.
ان انكشاف الخطط الإسرائيلية في هذه الحرب لإعادة تشكيل المنطقة لصالح المشروع الإسرائيلي عبر فرض الهزيمة على قوى محور المقاومة، لم يدع مجال للشك في ان الحرب الحالية هي بين القوى المساندة للحق الفلسطيني ومن خلاله العمل لمستقبل جديد لمنطقتنا بعيدا عن الهيمنة الأمريكية، مقابل قوى متوحشة طامعة وعدوّة لكل ما تمثله منطقتنا من حضارة وتأريخ وقيم. وهذا يدعو جميع القوى الوطنية في العراق ان تتخذ موقفا واضحا من هذا الصراع اذا ارادت ان تظل فاعلة وتساهم في رسم المشهد السياسي القادم.
ان خرافة النهوض الاقتصادي لدول المنطقة من خلال الاستقرار تحت مظلة الهيمنة الأمريكية هي غير معقولة أو منطقية. فلم تُنتج تجربة الغزو الأمريكي للعراق وتأسيس نظام ما بعد 2003 - في زمن الهيمنة الأمريكية الكاملة على العالم والشرق الأوسط - سوى الحروب الطائفية وداعش و"الفوضى الخلاقة" مع خريطة "حدود الدم" التي تقسم منطقتنا على أساس صراعات المجموعات الاثنية والدينية فيها. فكيف يمكن لأمريكا أضعف – بسبب بدء تحول النظام العالمي الى التعددية القطبية –وبأولوية مُرّكزة على الصين واسيا، ان تُحّول دول المنطقة الى مركز تنمية اقتصادي عالمي بمشروع مارشال جديد ترعاه؟
لكن هذا لا يعني أيضا ان تأخذ الحماسة جماهيرنا العراقية لمقاومة البطش الإسرائيلي وتتغافل عن ضيق القاعدة المجتمعية لقوى المقاومة الإسلامية وقصورها عن خلق الاجماع الوطني، أو عن التنبه بصعوبة بناء مجتمعات وطنية مستقرة من تجربة نجاح قوى مقاومة ذات أجندة محدودة.
في اعتقادي انه يمكن البناء على الفرصة الفريدة التي توفرت من خلال الحرب الحالية للاعتماد الذاتي الجيوستراتيجي لدول المنطقة شرط توسيع تجربة محور المقاومة ليشمل التنسيق مع تركيا لمعالجة الأوضاع الداخلية في العراق ولبنان وسوريا من أجل بناء تجربة حكم وطنية ناجحة فيها وتحقيق جلاء القوات الامريكية عنها. ان بقاء هذه البلدان ساحة للصراعات الإقليمية سيفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الكارثية وعدم الاستقرار السياسي فيها، ما يؤدي الى انهيارات في الحاضنة الاجتماعية لقوى المقاومة وبالتالي انهيار قوى المقاومة نفسها.لذلك لابد من السعي لبناء موقف وطني عابر للايديولوجيا والانقسامات السياسية يعمل على استعادة السيادة الوطنية في العراق سواء السياسية من خلال الخروج من الرقابة الدولية لمجلس الأمن، أو الاقتصادية من خلال التخلص من سيطرة البنك الفيدرالي الأمريكي على عائدات مبيعات النفط، أو العسكرية من خلال فك الارتباط مع التحالف الدولي ضد داعش وانسحاب القوات الامريكية. بالإضافة الى تحديد الدور المناسب لقوى المجتمع والمقاومة العراقية في هذه الحرب بما يتكامل مع الأدوار الأخرى لقوى محور المقاومة من جهة، ولا يهدد الاستقرار المجتمعي والحاضنة المجتمعية للمقاومة العراقية من جهة أخرى. وفي نفس الوقت يتم التوافق مع القوى الوطنية الأخرى لتشكيل برنامج وطني للإصلاح السياسي برؤية تعالج المسببات الرئيسية للأزمة البنيوية في النظام السياسي العراقي.