TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الضوء الشاحب

باليت المدى: الضوء الشاحب

نشر في: 28 أكتوبر, 2024: 12:02 ص

 ستار كاووش

ما أن دخلتُ ساحة كارل، وسط مدينة فيينا، حتى ظهرت من بعيد بناية (متحف فيينا) بإرتفاعها الباسق ولونها الأبيض الناصع، كأنها عروساً تستعد لزفافها هذا المساء رغم انها بُنيَتْ سنة 1887، وقد ظهر بمحاذاة المتحف إعلان معرض جماعة الإنفصاليين، الذي تُصادف إقامته هذه الأيام. إقتربتُ من الإعلان الذي إنتصبَ بإرتفاع عشرة أمتار تقريباً، متناغماً مع لون العشب الذي إمتد تحته مثل سجادة خضراء، وقد طُبعتْ عليه لوحة غوستاف كليمت التي رسم فيها الآلهة أثينا.
لم أُفَوِّتَ لحظة واحدة وأنا أنطلقُ نحن مدخل المتحف، لتنفتح أمامي لوحات هذه الجماعة التي غيرت الفن في فيينا، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هؤلاء الفنانين الذين أثبتوا بعد كل هذه السنوات بأن إنفصالهم لم يكن إنعطافة عابرة، بل كان تثبيتاً للفن ورسوخاً لقيم الجمال.
إبتدأ المعرض بلوحة غوستاف كليمت (بورتريت إيميلي فلوخ) بحجمه الكبير وتأثيرة الساحر، حيث تقف إيميلي، بفستانها البنفسجي الباهر، وهي تضع يدها على خصرها بثقة وإعتداد كأنها تستقبل زائري المعرض، لتتقاطر بعدها أعمال هذا الفنان المسكون بالجمال وفتنة النساء واللون، وقد إستوقفتني لوحته (بالاس أثينا) التي إستخدمها المتحف كإعلان للمعرض، وفي هذه اللوحة رسمَ كليمت أثينا بشخصيتها الأسطورية المليئة بالغموض وهي ترتدي ملابس الحرب ويغطي وجهها قناعاً نحاسياً أصفر، تنبثق منه عينان خاويتان. وأثينا الأسطورية هي شخصية خنثوية غريبة، حيث تمثل شكل ذكر من الداخل، فيما يعكس خارجها شكل أنثى. وربما أراد كليمت هنا أن يجمع بين الهداية والحرب، حيث إبتعد عن نساءه المليئات بالفتنة والشهوة وربما الفجور، ليرسم أثينا هنا كآلهة بعيداً عن الرغبات التي تميزتْ بها نساءه الأخريات.
في الصالة المجاورة أخذت لوحات الفنان فون ستوك أماكنها وكأنها أساطير عادت من زمن بعيد، حتى البورتريت الذي رسمه لنفسه بدا فيه سحر قصص الماضي والزخارف التي تتلائم مع الأفكار والطروحات الفنية لجماعة الانفصاليين. ليأتي دور لوحات الفنان ماكس ليبرمان الذي عُرضَتْ له مجموعة اللوحات التي ظهرت فيها مجاميع من النساء المتجمعات قرب البيوت، حيث يمكننا هنا تتبع حركة الفرشاة التي تركت لمسات ضوء شاحبة. تجولتُ بين صالات هذا المعرض وشعرت بأن لاشيء يمكن أن يعدل مزاج الانسان سوى الجمال الذي ينبعث من مثل هذه اللوحات، وليس هناك ما يسر النظر أكثر من الإقتراب أكثر من هذه الأعمال ومعرفة بعض أسرارها وما تخفيه خلفَ الألوان والتقنيات. هكذا مضيتُ أتنقلُ بين تفاصيل الحداثة الفنية التي انطلقت من مدينة الجمال فيينا، متجولاً بين أعمال الفنانين الذين شاركوا في حركة الانفصال الشهيرة عند نهاية القرن التاسع عشر، حيث امتلأت الصالات باللوحات والملصقات والرسومات التوضيحية وحتى إعلانات معارضهم القديمة. كل شيء هنا يعيدنا الى خطوات كليمت والفنانين الذين كانوا يحيطون به، أولئك الذين أثروا على الفن وغيروا مفهوم الجمال.
بين الأعمال الكثيرة إستوقفتني لوحة فرناند هودلر التي رسم فيها امرأة جالسة، تُطرق رأسها نحو الأسفل، فيما إنسدلَ شعرها الطويل ليغطي نصف جسدها. وقد استخدمت هذه اللوحة كإعلان لأحد معارض الانفصاليين سنة 1904، وعلى الجدار المقابل أخذت إحدى لوحات الفنان الهولندي يان توروب مكانها مشرقة كشمس صغيرة أضاءت القاعة. وتوروب كان قد ترك تأثيراً كبيراً على على هذه الجماعة بأعماله التي إنسابت منها الخطوط كإنها شلالات، إضافة الى وجوهه الساهمة والغامضة. ولا يمكنني أن أنسى هنا عمل الفنان العظيم ماكس كورزويل، حيث عرض المعرض أشهر أعماله (امرأة في الأصفر) والتي إستقرت بحجمها الكبير في صالة مجاورة. تنقلت بين القاعات التي امتلأت بالكثير من التقنيات التي أغنت الفن ومنحته مسحة رمزية إنسجمتْ بشكل مذهل مع فن الآرت ديكو.
لكن حكاية الانفصاليين لم تنتهِ بعد. فأنا على وشك الخروج نحو بناية أخرى لا تبعد عن هذا المتحف سوى بضع دقائق مشياً، والتي ضَمَّتْ أولى معارضهم ولقاءاتهم قبل أكثر من مئة سنة، وقد تحولت هذه البناية بدورها الى متحف فريد. والشيء الأهم بالنسبة لي هو أنها تحتوي على أجمل وأكبر لوحة لغوستاف كليمت، وهي (افريز بيتهوفن). وها أنا أخرج من جمال الى جمال، حيث تُصاحب خطواتي أطياف هؤلاء الفنانين الذين رحلوا وبقيت أعمالهم تطوف في هذه المدينة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: هلاوس الناطق السابق!!

العمودالثامن: مــن ســرق أحلامنا؟

العمودالثامن: مهاتير عراقي !!

العمودالثامن: البرلمان يعلن الحرب على النساء

المقاييس العربية وأهميتها في مواجهة التحيز اللغوي في مؤشرات التأثير الأكاديمي العالمية

العمودالثامن: لا يقرأن ما تكتبه

 علي حسين أحب ساخر بريطانيا الاكبر جورج برنارد شو إحدى قريباته، لكنها لم تبادله الحب، ويقال ان جميع النساء اللواتي احبهن كن من النوع الذي لا يطيق شيئين؛ السخرية والثقافة.كان برنارد شو في...
علي حسين

باليت المدى: الضوء الشاحب

 ستار كاووش ما أن دخلتُ ساحة كارل، وسط مدينة فيينا، حتى ظهرت من بعيد بناية (متحف فيينا) بإرتفاعها الباسق ولونها الأبيض الناصع، كأنها عروساً تستعد لزفافها هذا المساء رغم انها بُنيَتْ سنة 1887،...
ستار كاووش

النهضة الأدبية والفنية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في العراق

بلقيس شرارة نمت الحركة الوطنية وازدهرت في العراق، في عقد الأربعينات وبداية الخمسينات، خاصة بعد الإنفتاح الفكري والسياسي الذي تلا الحرب العالمية الثانية، فأجيزت الأحزاب وصدرت الجرائد الوطنية، ولعب روؤساء الأحزاب دوراً مهماً في...
بلقيس شرارة

قناديل: طرابيشي: لن تكفينا محطّاتُك الست

 لطفية الدليمي غادر (جورج طرابيشي) الحياة عام 2016 وهو لم يكتب سيرته الذاتية. اكتفى بستّ محطّات في سيرته. أتمنى أن يقرأ من يهوى القراءة هذه المحطّات الست؛ فهي خلاصة موجزة لمسيرة عقل مشرقي...
لطفية الدليمي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram