هاشم تايه
أطلقت ثورة تشرين الأوّل العام 2019 الشبابيّة مبادراتٍ حرّة عكست الرّوح الحيّة لجيل عراقي جديد صَعْب المراس. أعادت هذه الثورة تعريف الشكل الاحتجاجيّ العام، ومضمونه، وأخرجتْهما من الإطار التقليديّ الضيّق للتظاهر المؤدلج، المنضبط، المؤقت، إلى رحاب الفعل المقاوم المتسع طولاً، وعرضاً، وبصيرورته سلوكاً من العناد اليوميّ، وتشييده عالماً آخر من الأواصر الجديدة (المرجومة)، المعزّزة بتفكّرات (شيطانيّة) معاصرة، ووسائل حديثة، غالبة لا سبيل إلى مقاومة طاقتها على الإغراء، والجذب، والتحفيز، ما جعل الاحتجاح أقرب إلى الفنّ، وتمثيلاً عصيّاً للروح الفتيّة المكابرة.
وعلى مدى عمرها فتحت احتجاجات تشرين مجالاً للرغبة الوطنيّة في حيازة فضاء، وسلطة، وخطاب، وصناعة طاقة على فرض الذات، وحصد الاعتراف، كما أنتجت نسقاً متفتّحاً للإنكار الوطنيّ اتّسم بالتّنامي لأفعاله، وممارساته، وأنشطته اليوميّة التي عكست استجاباته، أو ردود أفعاله على ما يقع داخل محيط ساحاته، وخارجه.
إنّ واحداً من أهم ترجيعات الحدث الاحتجاجي، وظلاله المضيئة، كان، وما يزال احتفاءَهُ بذاته بأشكال من الفنون برز بينها فنّ الغرافيتي الذي انتشرت أعماله على الجدران داخل ساحات التظاهر، وخارجها، خالقاً فضاءً مدينيّاً حيويّاً بمواجهة الفضاء الرّسمي الكاسد. وتسابق فنّانون من الشابات، والشبان، وأترابهم من الهواة فأنجزوا غرافيتات التحمت ببعضها، أو تفرّقت، هنا، وهناك، في تعاضد عضوي لتمثيل مادتها التشكيليّة. وكان طبيعيّاً أن تتفاوت مستويات هذه الأعمال، وقيمتها الفنيّة في إطار بلاغتها الخاصّة كرسائل، وإشهارات، واستعراضات لحدث الاحتجاج داخل زمنه، وعلى أفق هذا الزمن. وفي هذا، وذاك أتحفتْنا الجدران المشغولة رَسْماً، ولغةً بأشكالٍ من التعبير المتحرّر من الأعراف، والقواعد المدرسيّة، وأنماط السلوك البَصَريّ الحَذِر، واتسع هذا التعبير لخطابٍ بَصَريّ حرص على أن يكون ذا وَقْعٍ لاذعٍ، تهويليّ، مَرِح، أو متهكّم لا يتورّع عن الهجاء، والتعريض بالذّم، والإدانة للتّصلّب الحاكم أفنديّاً كان، أم ملتحياً. وبرعت أعمال غرافيتيّينا في إعادة صياغة الجسد الاحتجاجي، يوميّاً، مختنقاً بغاز السّلطة، أو دامياً برصاص قنّاصتها، داخل يوميات من التفاصيل المشحونة بالغضب، والتمرّد، والتحريض، وتمجيد الضحايا بانطباعات شخصيّة تعكس خلاصات فنيّة متباينة للغرافيتيين.
بوسعنا المغامرة في اقتراح أعمال غرافيتيينا تياراً فنيّاً عراقيّاً على رقعة الغرافيتي العالمي، أهمّ سماته، وملامحه نزوعه السرديّ المتمثّل في عرض أحداثٍ بعينها وقعت داخل ساحات الاحتجاج، أو على مشارفها، وتعلّقت بمحتجّين معروفين، فضلاً عن عرضها أشكالاً من العنف الغاشم للسلطة، ووكلائها. وسنضيف إلى ذلك استعارتها السمات الشكليّة للفن الرافديني القديم، واستثمار رموز الحضارة العراقية، والتّدفُّؤ بالحسّ التمثيليّ الشعبي.
على مستوى الشكل يمكن، عموماً، رؤية غرافيتيات ساحة التحرير، ونظائرها في المدن المحتجّة داخل ثلاثة أنساق فنيّة تتداخل، أو تتنابذ:
- غرافيتيات تنتظم، وتعمل في إطار ما يُعرف بالملصق السياسيّ بحيث يمكن عَدُّها ملصقات جداريّة كبيرة.
- غرافيتيات تعالج مادتها كإعلان إشهاري.
- غرافيتيات تقترب، إلى حدّ بعيد، أو قريب من نسق اللوحة الفنيّة التقليديّة التي تعجّ بالتفاصيل.
وبوسع المراقب أن يُطلعنا على سمات شكليّة عامّة تتوزّع على أعمال فنانينا الغرافيتيين: فهناك النزوع التقليليّ المقتصد الذي يكتفي بأقلّ المفردات، والعناصر، وهناك البساطة، وتسطيح الأشكال، والتركيز على الفكرة من دون الإخلال بما تشعّه، واستخدام الألوان الصّريحة بمسحة لونيّة واحدة بلا تدرجات، أو تنغيم، بالإضافة إلى اكتفاء الأشكال، والعناصر بالإحاطة الخطيّة، ونبْذ البعد الثالث، وتحويل اللّغة الدّاعمة إلى تكوين صُوري تفاعليّ، وليس أخيراً السمة البانوروماوية، والطابع الحركي للأشكال، واستثمار خشونة الجدران لتحقيق ملمس يعضد التكوينات على السّطح، وتوظيف المساحة الرحبة للجدران لإنجاز الأشكال بسِمات تهويليّة مفارقة.
إنّ بإمكاننا تعرية هذه الغرافيتيات لنكتشف عنفاً متوارياً، وعصْفاً، وتقريعاً مُدوّياً، هي في النهاية حصاد تاريخ استفاق على لطخاته.
وفي كل عمل غرافيتي نكتشف ذواتنا، ونصقل تعريفنا لها مستندين إلى صياغةٍ صُوريّة محتفية، أو ناقمة على جدار ليس أمام من يستظلّ بظلّه مع الحقائق الجديدة إلاّ الاحتجاج.