حيدر نزار السيد سلمان
دائماً ما تتعكّز السلطةُ الحاكمة بجناحَيها السياسي والمسلّح على المرجعية الدينية في النجف في خطاباتها ولتبرير سلوكياتها السياسية؛ وطبقاً لخطابات الطبقة الحاكمة – سواء على المستوى الحزبي أو الأفراد- فإنّها تتظاهر بأنَّ الإرشادات والمواقف الصادرة عن مرجعية النجف تمثّل برنامج عمل وخطة لها، والأكثر من ذلك أنها تعدّ المرجعيةَ أنموذجها المهاب الموقَّر ومرجعها الاستراتيجي في كلّ شيء! بيد أن هناك فرقاً شاسعاً بين الخطاب المعلَن الموجّه لِلجمهور سعياً لكسبه إلى صفّ هذه القوى مع علمها بالارتباط الروحي القائم بين هذا الجمهور و المرجعية الدينية، وبين سلوكها السياسيّ والإداري والعملي.
رغم السيل المتدفّق من الوصايا والإرشادات والنصائح التي انطلقت من المرجع الأعلى السيد السيستاني ومنذ عام ٢٠٠٣ وحتّى الآن فإنّ القوى الحاكمة مارست أنماطاً متنوعة من المراوغة والالتفاف وتمييع هذه النصائح مع إعلانها بطاعة المرجعية الدينية وخضوعها لها وتقديسها خطابياً واستغلال أية إساءة لهذه المرجعية لإعلان الولاء والاستعداد لِلدفاع عنها باعتبارها المرجع والسند، بل أنها لا تتوانى عن اعتماد أساليب العنف لإظهار هذا الولاء.
مثل كل اللقاءات السابقة التي تجري بين السيد السيستاني والوفود الدولية فإنَّ لقائه الأخير مع محمّد الحسان ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وممثل بعثتها في العراق جاء لتأكيد ما دعا إليه السيستاني بتكرار ممل حول ضرورة إِبعاد العراق عن التدخلات الخارجية بكل مسمياتها ونزع السلاح وإخضاعه لسيطرة الدولة بوصفها المالك الحصري لقوّة القسر. مثلما دعا إلى تغيير النمط السلطوي والسلوك السياسي الفاشل من خلال اعتماد مبادئ الكفاءة والنزاهة وتحكيم سلطة القانون ومكافحة الفساد، وبذلك يحاول المرجعُ الأعلى تحذير الطبقة الحاكمة من تداعيات إخفاقاتها وضرورة تغيير مسارها، والأكثر من ذلك هي الإشارات الواردة إلى ضرورة بناء الدولة الهادفة للرفاهية والازدهار والتقدم، بدل الأنموذج الحالي القائم على الفوضى والتخبّط.
الأمر الأكثر أهمية أن هذه الإشارات تأتي بظرف عصيب تمرّ به المنطقةُ الإقليمية، ومنها العراق، ومحاولة لإبعاده عن الخطر. ولعلّ السيد السيستاني يدرك بتبصّرٍ مدى خطورة زجّ العراق في حرب وصراع نتائجه خطيرة على البلاد والشعب، وهو الذي احترق بنار حروب النظام السابق. وحسب المنطق العقلاني للسيد السيستاني فإنَّ المرجو من السلطة والنظام السياسي العمل الجاد المثابر لتقدّم البلاد وازدهارها وتحقيق مستقبل أفضل بدل الإخفاقات الحاصلة؛ لكنّ السيستاني يعلن بصراحة عن عدم ثقته بهذه الطبقة في تدارك الفشل وتجاوز أزمتها الداخلية حين يقول: "ولكن يبدو أنَّ أمام العراقيين مسار طويل إلى أن يصلوا إلى تحقيق ذلك، أعانهم الله عليه".
تبدو الصورة العامة أن المرجع الأعلى في وادِ (العدالة، الاستقرار، المستقبل الزاهر، حكم القانون، عدم التدخل الأجنبي والحفاظ على سيادة البلد، وحصر السلاح بيد الدولة) والنخبة السياسية في وادِ آخر(الفوضى واجترار الماضي، والمخادعة، والدوام على نسق الفشل، والسلاح اللامسيطر عليه، ومراكز القوى، والفساد المتحكّم). وبكلّ الأحوال ستحاول القوى الحاكمة -رغم أنَّ مطالب المرجع الأعلى ترمي إلى إنقاذها لو أحسنَت التصرّف- ستحاول وكما حدث سابقاً الالتفاف على هذه النصائح وتمييعها بعد أن تعلن التزامها بها لفظاً وخطاباً، لكنها تتجاوزها وتضربها عرض الحائط سلوكاً وتصرفاً، إذ يبدو أنَّ هذه السلطة بأحزابها وأفرادها وقواها المسلّحة لم تعد تحمل كلامَ المرجعية محمل الجدّ إلا للضرورة الجماهيرية بادعائها طاعتها وتأييدها والاستجابة لمطالبها؛ لكنّها في الواقع بالعكس من ذلك، وهو ما دعا السيد السيستاني إلى إعلان شعوره بفقدان الثقة بهذه الطبقة كونها لا تسمع إلا ما تريد سماعه.