طالب عبد العزيز
نحن لا يمكن أن نكتبَ عن شيءٍ لا نملك إزاءه أيَّ شعور! لا أعرف أينَ قرأتُ هذه الجملة؟ لكنني، فكرّتُ مرةً بمن يستطيع التقاط رنّات الجرس، أو تعقّب وهدايةَ نجمةٍ ضلت طريقها الى السماء، وهكذا، كنتُ أحدِّثُ القلم عمّا يدور في رأسه، لا ما في رأسي، مستعيناً بجملة بورخيس:" المصادفة وحدها هي التي جعلت مني كاتباً ومنك قارئاً" أفكارٌ مثل هذه لا يمكن إلا أنْ تكونَ واقعيةً، وإنْ بدت شعرية. أشفقُ على الذين يتعاملون مع الأشياء بواقعية، غير متنبهين إلى عظمة الحلم والخيال. ليس الشعرُ من يحرضنا على صناعة القول هذا حسب، الشعرُ يجعلنا نحلمُ الواقع، وإلا كيف نتعامل مع جملة سيلفيا بلاث التي تقول:" صامتٌ مثل اللفت في الرابع من تموز" هل بيننا من يقدر على رفض الجملة هذه؟
قبل نصف قرن، كنتُ قد حلمتُ حلماً غريباً وجميلاً أيضاً، سأحاول روايته بما أستطيع، مع يقيني بأنني لن أبلغَ روايته حقَّها في الجمال والخيال. بدا الحلم هكذا: كما لو أنني كنتُ واقفاً على جسر، والماء يجري سريعاً، أو، لا، لم يكن سريعاً جداً، لعله كان بطيئاً، لكنَّه يسير باتجاه الجنوب، وهذا أكيد. كان الموسم ربيعاً، والماء مدُّ كثير، وكنتُ أمسك بيدي وردةً حمراء، هل كانت حمراءَ؟ لا أعتقد، هي وردية إذن، وكمن يلهو مع حلمه، كنتُ أخلعُ من الوردة وريقةً تلو أخرى وألقي بها في الماء، فيأخذها المدُّ، حتى اصطفت الوريقات، واحدة إثر أختها، هل انتظمت؟ وهل تفرقت؟ لا أذكرُ. لم أكُ حزيناً، وربما لم أكن سعيداً جداً، لكنَّ الغريب في الحلم أو بواقع الوريقات فيه، هو أنَّ كلَّ وريقة حمراء أو وردية استحالت الى إوزة بيضاء صغيرة، بذيل فيه نقاط حمر، حملها الماءُ بعيداً عنّي، في مهرجانٍ للألوان، لم أحظَّ بعد ذلك، لم تختف الإوزات عن عيني من الليلة تلك الى اليوم، ظلَّ المدُّ يجرفها لكنها لم تختف، كنتُ اتنفسُ الماءَ الذي سيحملني على ظهره ذات يوم.
يدافعُ تيد هيوز عن كتابة بعض قصائده بأنَّها كانت تشبه ما كان يفعله في طفولته، فقد كان يصطاد الفئران، ويضعها في معطفه! وكتابة القصائد عنده نوع من اصطياد الحيوان. ثم أنني علمتُ بأنَّ خالته كانت قد اشترت له شيئاً من الطين الاصطناعي، فراح يملأ حديقة البيت بما يصنع من حيوانات. لا أعرف كيف قفزت الى رأسي إحدى الوقائع. كنتُ طفلاً تأخذني أمّي الى بيت أختها، بمحلة أمِّ الدجاج، التي في العشار، بالبصرة، قرب سوق الخضار والفاكهة. زوج خالتي كان ميسوراً يعمل في الكويت، ويأتي لابنه(مكّي) الذي كان بعمري تقريباً العاباً كثيرةً من هناك- لم أقتن واحدة في حياتي- كيف لي ذلك؟ أنا ابن فلاح، والطين حوالينا كثير، أنا لا أشتري الألعاب، أنا أخلقها، ثم أنني كنتُ أملأ البيت بحيواناتي. بدا لي أنّ خالتي كانت بخيلةً فهي تجعل ألعاب ابنها في رفٍّ عالٍ، كلما فرغ من لعبته الجديدة، وهكذا صار لديه عدد لا يُحصى من الألعاب الملونة.
مع أنني كنتُ أغبطه على كثرة ألعابه، فقد حدث أنْ لهوت معه في لعبة سائق الدراجة النارية، التي تعمل بالكوك، إلا أنني كنتُ أنظر فيه عجزه عن خلق واحدة منها، هو يحتفظ بها، وأنا أعيد خلقها. يقول تيد هيوز بأنَّ الشعر لا يُصنع من أفكار وخيالاتٍ عابرة، إنّه يُصنع من التجارب، التي تغيّر أجسادنا وأرواحنا. اليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود، أجدني مثل من سُخّفتْ الحياةُ أمامه أكثرَ من مرّة، بعد أنْ ظنَّها ممكنةً، لكنّه، فجأة وجدَ سحّاب بنطاله مفتوحاً، والمرأةُ التي انتظرها في محطة القطار لم تعد بقميصها ذاك! لذا، فأنا لا أمانعَ إنْ القى أحدُهم نظرةً على جثتي.